التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود

          ░5▒ (بَابُ: إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَهُوَ مَرْدُودٌ)
          2695- 2696- ذكر فيه حديثَ أبي هُريرة وزيدِ بن خالدٍ الجُهَنيِّ في قصَّة العَسِيف، وقد سلف بعضُه في الوكالة [خ¦2314].
          2697- وحديثَ عائشةَ: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ المَخْرَمِيُّ وَعَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، يعني: عن القاسم عنها.
          أمَّا الحديثُ الأوَّل فالكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: العَسِيفُ فيه: الأجير، وجمعه: عُسَفاء ذكره الأزهَريُّ، وعَسَفَهُ على غير قياسٍ ذكره ابن سِيْدَهْ، وهو الأجير المستهان منه، وقيل: هو المملوك المستهان به، وقيل: كلُّ خادمٍ عَسيفٌ.
          ثانيها: قوله: (ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ) يؤخذ منه سؤالُ المَفضولِ مع وجودِ الفاضل إذ لم ينكره ◙، قيل: والَّذين كانوا يفتون في عصره _◙_ الخلفاء الأربعة، وثلاثةٌ مِنَ الأنصار: أُبيُّ بن كعبٍ ومعاذ بن جبلٍ وزيد بن ثابتٍ.
          ثالثها: قوله: (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ) أي إنَّك الجدير بأن تقضي به، أو فإنَّك لم تزل تقضي به، أو فإنَّك القاضي به، ومثله قوله _تعالى_: {قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112] والمراد بكتاب الله أي بحكمه؛ إذ ليس في الكتاب ذكرُ الرَّجم، وقد جاء الكتاب بمعنى الفرض، قال _تعالى_: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] أي فُرِض، وقال: {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24].
          ويُحتمل أن يكون فُرِضَ أوَّلًا بالنَّصِّ ثُمَّ نُسِخَ لفظُه دون حكمِه على ما رُوي عن عمَرَ أنَّه قال: قرأناها فيما أنزل الله: ((الشَّيخ والشَّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة بما قضيا مِنَ اللَّذَّة))، وقيل: الرَّجم مَتْلُوٌّ في القرآن غير منسوخٍ لفظُه_، وهو قوله تعالى_: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8] وهو الرَّجم في بيانه _◙_ رجمَ ماعزًا.
          وقيل: ليس فيه، وإنَّما هو في السُّنَّة وهي تنسخ القرآن إذا كانت متواترةً.
          وقالوا: معنى (بِكِتَابِ اللهِ) بوحيه لا بالمتلوِّ، والَّذي عليه أكثر أصحاب مالكٍ أنَّ القرآن لا يُنْسَخُ بالسُّنَّةِ وإنَّما هي تُبَيِّنُه، وإنَّما يُنْسَخ القرآنُ بالقرآنِ والسُّنَّةُ بالسُّنَّةِ، وقد أوضحتُ ذلك في «شرح منهاج الأصول» فراجعْه. وقيل: المراد نقض صلحَهما الباطل على الغنم والوَليدة، ويُرْوَى: كلُّ صُلْحٍ خالفَ الشَّرعَ فهو باطلٌ مردودٌ.
          رابعها: لم يسأله عن كيفية الزِّنا لأنه مُبَيَّن في قصَّة ماعزٍ، وهذا صحيحٌ إن ثبت تأخيرُ هذا الخبر عن خبر ماعزٍ، فَيُحْمَل على أنَّ الابن كان بِكْرًا وعلى أنَّه اعترف، وإلَّا فإقرار الأب عليه غيرُ مقبولٍ أو يكون هذا إفتاءً، أي إن كان كذا فكذا.
          خامسها: قوله: (أَمَّا الغَنَمُ والوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ) فيه أنَّ الصُّلحَ الفاسدَ يُنقض، كذا قاله جماعةٌ وفيه نظرٌ، لأنَّه صالَح على ما لا يملك، ولا يصحُّ الصُّلحُ عنه، ومَنْ أجاز الفاسدَ إذا وقع لا يقول بجواز هذا، ولا يلزمه القولُ به.
          وقوله: (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) هو حجَّةٌ على أبي حنيفة في إنكاره التَّغريبَ لأنَّه ليس مذكورًا في القرآن، والزِّيادة على النَّصِّ نسخٌ، وهو بخبر الواحد غيرُ جائزٍ، وفيه إثباتُ الرَّجم ولا خلاف فيه، ولا يُلْتَفَتُ إلى ما يُحْكَى عن الخوارج وقد خالفوا السُّنَن.
          فائدةٌ: أُنَيْسٌ هذا قيل: إنَّه ابن الضَّحَّاك الأَسلميُّ، وقال الدَّاوُديُّ: أُنَيْسٌ اسم الرَّجل، قال غيره: هو تصغير أنس بن مالكٍ خادم رسول الله صلعم، ذَكره كلَّه ابنُ التِّينِ.
          وقوله: (فَاغْدُ) أي ائتِها غُدوةً قاله ابنُ التِّين، ثُمَّ قال: قيل: فيه تأخيرُ الحكم إلى الغد، وهذا يصحُّ إذا ثبت أنَّ هذا كان بالأصيل.
          وقال غيره: ليس معناه امضِ إليها بكرةً كما هو موضوعها، وكذا قوله: (فَغَدَا إِلَيْهَا) أي مشى إليها، وفيه بعثُ الإمامِ لِمَنْ ذُكر عنه الزِّنا يسأله عن ذلك، وقيل: إنَّه نُسخ بحديث ماعزٍ، وقيل: إنَّما بَعث إليها ليُعْلِمها بالقذف؛ فبإقرارها يسقط عنه الحدُّ، وقد روي: (وَامْضِ) فعليه ليس فيه تأخيرُ الحُكم، قيل: فيه أنَّ الإمام يقضي إلى آخر النَّهار، وفيه الوكالة في إقامة الحدِّ، وقد ترجم عليه هناك وأسلفناه [خ¦2314].
          سادسها: قوله: (فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) فيه أحكامٌ:
          أحدها: إثبات الرَّجم كما مضى.
          ثانيها: سقوط الجَلْد مع الرَّجم خلافًا لمسروقٍ وأهلِ الظَّاهر في إيجابهم الجمع بينهما، ولو كان واجبًا لأمر به.
          ثالثها: الحدُّ يجب باعتراف الزِّنا مرَّةً لقوله: (فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) ولم يقل أربعًا، وبه قال مالكٌ والشَّافعيُّ، وقال ابن أبي ليلى وأحمد: لا يجب إلَّا باعترافِ أربع مرَّاتٍ، زاد أبو حنيفة: في أربعة مجالسَ.
          رابعها: قد استدلَّ به أهل الظَّاهر على أن الْمُقِرَّ بالزِّنا لا يُقْبَل رجوعُه عنه، وليس في الحديث التَّعرُّض للرُّجوع، وقال مالكٌ وأصحابه: يُقْبَل منه إن رجَع إلى شبهةٍ، فإن رجع إلى غيرها فخلافٌ.
          خامسها: أنَّ الرَّجم ليس مِنْ شرطه حضورُ الإمام خلافًا لأبي حنيفة، وذُكر عنه أنَّه يجب على الشُّهود الحضورُ لا غير.
          سادسها: أنَّه لا يُحْفَرُ للمرأة، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة، وقال الشَّافعيُّ وأَشْهَبُ: يُحْفَرُ لها.
          سابعها: الوكالة على إقامة الحدِّ، وقد سلف [خ¦2314].
          ثامنها: إرسال الواحد في تنفيذ الحكم.
          تاسعها: أنَّ المنفذ لا يُعذر فيه.
          عاشرها: أنَّ الحاكم يَحكم بعلمه لأنَّه لم يقل لأُنيسٍ خذ معك أحدًا، وروي في بعض طرقه: فَغَدَا أُنَيْسٌ وَرَجُلَانِ مَعَهُ. قلتُ: كذا استنبطه ابنُ التِّين، وليس هذا مِنَ الحُكم بالعلم بل بالاعتراف.
          الحادي عشرَ: أنَّ للإمام أن يسأل المقذوفَ فإن اعتَرف حدَّه، وإن لم يَعترف وطالب القاذفَ أُخذ له بحدِّه، وقيل: يحدُّه وإن لم يطالب المقذوفُ إذا سمعه ثَبَتةٌ غير الإمام وكانوا معه.
          الثَّاني عشرَ: أنَّ على الإمام أن يَبعث إلى المقذوف يعرِّفه أنَّ له حقًّا، وقد بوَّب عليه البخاريُّ: إذا رمى امرأتَه أو امرأةَ غيره بالزِّنا عند الحاكمِ والنَّاسِ هل على الحاكم أن يَبعثَ إليها فيسألَها بما رُمِيت به؟ [خ¦86/38-10162]. /
          الثَّالث عشرَ: أنَّ الرَّجم إذا وُجد أُقِيم ولا يُؤَخَّر، اللهمَّ إلَّا أن يكون الحَرُّ الشَّديد أو البرد الشَّديد لقوله: (فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) ولم يُفَصِّل.
          الرَّابع عشرَ: فيه إقامةُ الحدِّ في حَرم المدينة.
          سابعها: فيه قولُ الإمام: (والَّذي نفسي بيده، وحَلِفُ الصَّادقِ، نبَّه عليه الدَّاوُديُّ.
          ثامنها: ذكر البخاريُّ فيما سيأتي في روايةٍ: وَكَانَ أَفْقَهَهُمَا) أي في هذه القضيَّة، ويحتمل أن يكون لاستئذانه، وحذره مِنَ الوقوع في النَّهي في قوله: (لَا تُقَدِّمُوا) بخلاف الأوَّل لخفائه.
          وفيه: أنَّ الفقيه قد يكون منه الخطأ، ولم يذكر هنا اعترافَها وذكر في المحاربين: فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا.
          تاسعها: قال ابن بَطَّالٍ: أمَّا قضاؤه _◙_ بكتاب الله وهو ردُّ الغَنَمِ والجارية اللَّذَيْنِ أُخِذَا بالباطل، وقد نهى الله _تعالى_ عبادَه عن ذلك بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ولم يجُز هذا الصُّلح لاشتراء حدود الله ببعض عَرض الدُّنيا، وحدود الله لا تسقط ولا تُبَاع ولا تُشْتَرى، وقام الإجماع على أنَّ الصُّلح المنعقد على غير السُّنَّة لا يجوز وأنَّه مُنْتَقَضٌ، ألا ترى أنَّه ردَّ الغنم والوَليدة وألزم ابنَه مِنَ الحدِّ ما ألزمه الله تعالى، فقال: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) وبذلك كتب عمرُ بن الخطَّاب إلى أبي موسى الأشعريِّ في رسالته إليه يعلِّمه القضاء فقال: والصُّلح جائزٌ بين المسلمين، إلَّا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا.
          قلت: ونَطَقَ بذلك رسولُه عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام، وذهب مالكٌ وابن القاسم إلى أنَّ الصُّلح كالبيع لا يجوز فيه المكروهُ ولا الغَرَر، وذَكر ابن حَبيبٍ عن مُطَرِّفٍ قال: كل ما وقع به الصُّلح مِنَ الأشياء المكروهة الَّتي ليست بحرامٍ صُراح فالصُّلح بها جائزٌ، وقال ابن الْمَاجِشُون: إن غُرَّ عليه بحِدْثانه فُسخ وإن طال أمرُه مضى.
          وقال أَصبغُ: إن وقع الصُّلح بالحرام والمكروه مضى ولم يُردَّ وإن عسر عليه بحِدْثان ذلك لأنَّه كالهبة، ألا ترى أنَّه لو صالحه مِنْ دعواه بشِقْصٍ لم يكن فيه شُفعةٌ لأنَّه كالهبة، وقد حدَّثنا سفيان بن عُيَينة أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ أُتي بصلح فقرأه فقال: هذا حرامٌ ولولا أنَّه صلحٌ لفسختُه.
          قال ابن حَبيبٍ: وقول ابن مُطرِّفٍ وابن الماجِشُون أحبُّ لموافقته قولَه في الحديث: ((إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أو حَرَّمَ حَلَالًا)). وقال ابن الْمُنَيِّر: الصُّلح على الجَور قد يكون مِنَ الجانبين ومِنْ أحدهما، كأنْ يدَّعيَ عليه دينًا فيجحدَه ويصالحه على بعضه، فهذا يقول الدَّافع إنَّه جورٌ ولا يُردُّ بل يمضي، وقد يتَّفقان على أنَّه جورٌ كأن يظنَّ الدَّافع أنَّ الدَّعوى لو ثبتت لزمه منها حقٌّ فيكشف العيب لهما أنَّ حكم الشَّرع أنَّ هذه الدَّعوى لو اعترف بها أو ثبتت بيِّنتُه لم يلزم فيها حقٌّ، وأنَّه غير موجِّهه إلى مال الصُّلح ولا بعضه فهذا جورٌ يُردُّ في مثله، وفيه خلافٌ عند مالكٍ، قيل: يُردُّ اتِّباعًا للحديث، وقيل: يلزم لقوله _◙_: ((المُؤمِنُونَ عِنْدَ شُروطِهِمْ)) وقد فرَّط الدَّافع فكأنَّه تطوُّعٌ والتَّطوُّع يلزم على أصله بالشُّروع فيه، قلت: كلُّ ذلك على مذهبه، وعندنا لا صلحَ مع إنكارٍ.
          الحادي عشرَ: في روايةٍ لم يذكرها هنا: أَنْشُدُكَ اللهَ، هو بفتح الهمزة وضمِّ الشِّين، قال ثعلبٌ: نَشَدْتُك وأنا أَنْشُدُك اللهَ، قال القزَّاز: معناه: سألتك بالله، وفي «أمالي ثعلبٍ»: ذكَّرتك الله، زاد ابن طَرِيفٍ: مستحلِفًا، وعند اللِّحْيانِيِّ: أنشُدك بالله، وقال القُرطُبيُّ: أُقسم عليك رافعًا نشيدتي وهو صوتي، ففيه جواز قولِ الرجل للحاكم ذلك وقسمُه كان للتأكيد، قيل: فيه ردٌّ على المعتزلة أنَّ الأفعال مِنْ خلق بني آدم وقد ينفصلون عنه بأنَّ المراد إماتة النَّفس وذلك لله _تعالى_ قطعًا، وفيه أنَّ الحدودَ الَّتي هي محضةٌ لحقِّ الله لا يصلح الصُّلح فيها.
          واخْتُلِف في حدِّ القذف هل يصحُّ الصُّلح فيها أم لا؟ ولم يُختلف في كراهته لأنَّه ثمن عرضٍ، ولا خلاف في جوازه قبل رفعه، وأمَّا حقوق الأبدان مِنَ الجراح وحقوق الأموال فلا خلاف في جوازه مع الإقرار، واختُلف في الصُّلح على الإنكار فأجازه مالكٌ ومنعه الشَّافعيُّ كما أسلفناه.
          وفيه أنَّ ما كان معلومًا مِنَ الشُّروط والأسباب الَّتي تترتَّب عليها الأحكام لا يُحْتَاج إلى السُّؤال عنها، فإنَّ إحصانَ المرأة كان معلومًا عندهم وبما في نفس الحديث، وعلى هذا يُحمل حديثُ الغامِديَّة إذ لو لم تكن مُحْصَنةً لم يجزْ رجمُها إجماعًا.
          وفيه إقامة الحاكم الحدَّ بمجرَّد إقرار المحدود مِنْ غير شهادةٍ عليه، وهو أحدُ قولي الشَّافعيِّ وأبي ثَورٍ، ولا يجوز ذلك عند مالكٍ إلَّا بعد الشَّهادة عليه، والفصل عن ذلك أنَّه ليس في الحديث ما يَنُصُّ على أنَّه لم يسمع إقرارَها إلَّا أُنَيسٌ خاصَّةً، بل العادة قاضيةٌ بأنَّ مثل هذه القضيَّة لا تكون في خلوةٍ ولا ينفرد بها الآحاد، بل لا بدَّ مِنْ حضور جمعٍ كثيرٍ، ولا بدَّ مِنْ إحضار طائفةٍ مِنَ المؤمنين لإقامة الحدِّ كما قال _تعالى_: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] وهذا كلُّه مبنيٌّ على أنَّ أُنيسًا كان حاكمًا، ويحتمل أن يكون رسولًا يستفصلها، ويَعْضُده قولُه في آخرِ الحديث في بعض الرِّوايات: فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَرُجِمَتْ. فهذا يدلُّ أنَّ أُنَيْسًا إنَّما سمع إقرارها، وأنَّ تنفيذ الحكم إنَّما كان مِنْ رسول الله _صلعم_ وحينئذٍ يتوجَّه إشكالٌ آخر وهو أن يُقَال: كيف اكْتُفِي في ذلك بشاهدٍ واحدٍ وقد اخْتُلِف في الشَّهادة على الإقرار بالزِّنا هل يُكْتَفى باثنين أم لا بُدَّ مِنْ أربعةٍ؟ على قولين، ولم يذهب أحدٌ مِنَ المسلمين إلى الاكتفاء بواحدٍ.
          والجواب: أنَّ هذا اللَّفظ الَّذي سُقناه مِنْ رواية اللَّيث عن الزُّهريِّ، ورواه عن الزُّهريِّ مالكٌ بلفظ: فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا، ولم يذكر: فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ. وعند التَّعارض فحديث مالكٍ أولى لما يُعْلَمُ مِنْ حفظِ مالكٍ وضبطِه، وخصوصًا في حديث الزُّهريِّ فإنَّه مِنْ أعرف النَّاس به.
          وقال الدَّاوُديُّ في الأوَّل: ما أُراه بمحفوظٍ، ويُحتمل أن يكون الأمرُ الأوَّل وظاهر الحديث خلافه لقوله: «فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ»، وقد ترجم عليه البخاريُّ [خ¦2724] بَاب: مَنْ أَمَرَ غَيْرَ الإِمَامِ بِإِقَامَةِ الحَدِّ غَائِبًا عَنْهُ، يريد أنَّ أُنَيْسًا رجمها لمَّا اعترفت عنده، والظَّاهر أنَّ أُنَيْسًا كان حاكمًا فلا إشكال إذنْ. ولو سلَّمنا أنَّه كان رسولًا فليس فيه ما ينصُّ على انفراده بالشَّهادة، ويكون غيره قد شَهِدَ عليها عند / رسول الله _صلعم_ بذلك. ويعضد هذا أنَّ القضيَّة اشتهرت وانتشرت فَيَبْعُدُ أن ينفردَ بها واحدٌ سلَّمناه، لكنَّه خبرٌ لا شهادةٌ فلا يشترط العدد فيه، وحينئذٍ يستدلُّ به على قَبول أخبار الآحاد والعمل بها في الدُّماء وغيرها.
          وقال النَّوويُّ: بَعْثُ أُنَيْسٍ عند علماء أصحابنا يُعْلِم المرأة بأنَّ هذا الرَّجل قذفَك، ولك عنده حدُّ القذف فتطلب به أو تعفو، إلَّا أن تعترف بالزِّنا فلا يجب عليه شيءٌ، فلمَّا ذهب إليها اعترفت، فأمر بها رسول الله _صلعم_ فَرُجِمَتْ، قال: ولا بدَّ مِنْ هذا التَّأويل.
          وفيه مِنَ الأحكام أنَّ زنا المرأة لا يفسخ نكاحها مِنْ زوجها، وأمَّا حديث عائشةَ فسيأتي الكلام عليه في موضعه وشيخُه فيه (يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) قيل: إنه يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِيُّ، وقيل: بزيادة ابن سعدٍ. وقيل: ابن حُميد بن كاسبٍ وقيل: ابن محمَّد بن عيسى الزُّهريِّ، كذا ذكره ابن السَّكَن وأنكره الحاكم، وزعم أبو نُعيمٍ أنَّه يعقوبُ بن إبراهيمَ، وذكر الكَلابَاذِيُّ والحاكم أبو عبد الله أنَّه يعقوب بن حُمَيْدٍ والله أعلم.