التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الخصومة في البئر والقضاء فيها

          ░4▒ (بَابُ: الخُصُومَةِ فِي البِئْرِ وَالقَضَاءِ فِيهَا)
          2356- 2357- ذَكر حديثَ شَقِيقٍ: (عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ هُو عَلَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُو عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللهُ _تعالى_: {إِنَّ الَّذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}الآية[آل عمران:77] فَجَاءَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحمنِ؟ فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ...) الحديثَ.
          هذا الحديثُ أخرجه البُخارِيُّ في عدَّة أبوابٍ: هنا عن عَبدانَ عن أبي حمزةَ، والإشخاص [خ¦2416] والشَّهادات [خ¦2666] عن محمَّدٍ _هو ابن سَلَّامٍ_ عن أبي معاوية، وفي الإشخاص أيضًا: عن بِشر بن خالد، عن غُنْدَرٍ، عَن شُعْبَة، وفي النُّذور [خ¦6676] عن موسى، وفي التَّفسير [خ¦4549] عن حجَّاج بن المِنْهال، كلاهما عن أبي عَوَانة أربعتُهم عن الأعْمش، وفي الشَّركة أيضًا [خ¦2515] عن قُتيبةَ، عن جريرٍ، عن منصورٍ، وفي النُّذور أيضًا [خ¦6659] عن بُنْدارٍ عن ابن أبي عديِّ، عن شُعْبَةَ، وفي الأحكام [خ¦7183] عن إسحاقَ بن نصرٍ، عن عبد الرَّزَّاق، عن سفيان، كلاهما عن الأعمش ومنصورٍ، كلاهما عن أبي وائل عنه به.
          وأخرجه مسلمٌ في الأيمان عن أبي بكرٍ وإسحاقَ وابن نُميرٍ ثلاثتُهم عن وكيعٍ، وعن ابن نُميرٍ، عن أبيه كلاهما عَن الأعمش به، وعن إسحاق عن جريرٍ، وأخرجه أبو داود في الأيمان والنُّذور، والتِّرْمِذِيُّ في البيوع والتَّفسير، والنَّسائِيُّ في القضاء والتَّفسير، وابن ماجَهْ في الأحكام.
          قال الإسماعيليُّ: أخرجه البُخارِيُّ عن أبي حمزة عن الأعمش، يعني عن عَبْدانَ، عن أبي حمزة به: كانت بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في بئرٍ في أرضٍ، قال: ولا أعلمُ في جماعة مَنْ رواه عن الأعمشِ إلَّا قال: في أرضٍ.
          وحُكم الخصومةِ في البئر وفي الأرض واحدٌ في هذا الخبر، فأَوْرَدَ لِذكر البئر بابًا والخبرُ واحدٌ، والأكثرون أَولى بالحفظ مِنْ أبي حمزة، فإنَّ أبا معاوية ووكيعًا وابن نُميرٍ وأبا أسامة وغيرهم ممَّن رواه وذكر قصَّة الأشعث بتمامها ذكر الأرض، فيحتمل أن تكون الأرضُ فيها بئرٌ، فيصحَّ اللَّفظان في التَّأويلين على هذا المعنى، ولكن كان ربَّما يقصد إلى ما تفرَّد به الواحد مِنْ لفظه فيُفرد له بابًا إذا غمض ذلك، ولا وجه له وفيه نظر؛ لأنَّ أبا عَوانة رواه عن الأعمش في كتاب الأيمان والتَّفسير مِنَ «الصَّحيح» عن أبي وائلٍ عن عبد الله، وفيه: قال الأعمش: كانت لي بئرٌ في أرض ابن عمٍّ لي، وفي كتاب الأَيمان كذلك: نزلت فِيَّ وفي صاحبٍ لي في بئرٍ كانت بينَنا، عن شُعبةَ عن سليمانَ ومنصورٍ عن أبي وائلٍ، وفي آخره: قال سليمان عن الأشعث، فذكره. وفي الأحكام مِنْ حديث سفيانَ، عن منصورٍ والأعمش عن أبي وائلٍ الحديثَ، وكذا رواه أبو نُعيمٍ الحافظُ مِنْ حديث عليِّ بن مُسْهِرٍ، عن الأعمش.
          وقال / الطَّرْقيُّ: رواه عن أبي وائلٍ منصورٌ والأعمش، فمنصورٌ لم يرفع قول عبد الله إلى رَسُول الله صلعم، والأعمش يقول: قال عبد الله: قال رَسُول الله صلعم، وكذا ذكره المِزِّيُّ في «أطرافه»، وقد أسلفنا لكَ رواية منصورٍ عن أبي وائلٍ مرفوعةً مِنْ عند البُخارِيِّ.
          قال الطَّرْقيُّ: رواه عبد الملك بن أعين، وجامِعُ بن أبي راشدٍ، ومسلمٌ البَطِينُ، عن أبي وائلٍ عن عبد الله مرفوعًا، وليس فيه ذكر الأشعث، ورواه كُرْدُوسٌ التَّغْلِبيُّ عن الأشعث بن قيسٍ، عن رَسُول الله صلعم، وليس فيه ذكرُ ابن مسعودٍ.
          قلت: وفي اليمين الفاجرة عن ابن عمرٍو، وأبي أُمامة وإياسِ بن ثَعْلَبة، ووائل بن حُجْرٍ، وعِمرانَ بن حُصينٍ، وعَدِيِّ بن عَمِيْرَةَ، وأبي موسى، ومَعْقِلِ بن يَسَارٍ، وأبي هُرَيرَةَ.
          وفي «تفسير ابن جريرٍ الطَّبريِّ»، عن ابن جُرَيْجٍ: اختصمَ الأشعثُ هو ورجلٌ في أرضٍ كانت في يده لذلك الرَّجل أخذها لتَعزُّزه في الجاهليَّة، وفيه: فقام الأشعثُ يحلف، فأنزل الله الآية فنكل الأشعثُ، فقال: إنِّي أُشهدُ اللهَ وأُشهدُكم أنَّ خصمي صادقٌ، وأعطاه أرضَه، وزادَهُ مِنْ أرض نفسِه زيادةً كثيرةً مخافةَ أن يبقى في يده شيءٌ مِنْ حقِّه، فهي لِعَقِبِ ذلك الرَّجلِ مِنْ بعده.
          وفي كتاب «إدارة الأحكام» لأبي طاهرٍ إسماعيلَ بن عليِّ بن إبراهيمَ بن أبي القاسم الجَنْزَوِيِّ: قال رَسُول الله _صلعم_ في قصَّة الكِنْدِيِّ والحَضْرَميِّ حين قال له الْمَقْضِيُّ عليه: قضيتَ عَلَيَّ والحقُّ ليْ: ((إنَّما أقضي بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائر))، وَهذِه الرِّواية عزيزةٌ تتبَّعناها فلم نجدها دهرًا فاستفِدْها.
          وذَكَرَ البُخارِيُّ لسبب نزول هذِه الآية عَن عبد الله بن أبي أوفى أنَّ رجلًا أقام سِلعَةً في السُّوق، فحَلَف: لقد أُعطِيَ بها مَا لم يُعطَهُ ليوقِعَ فيها رجلًا مِنَ المسلمين فنزل: {إِنَّ الَّذين يَشْتَرُونَ}الآية[آل عمران:77]، وهَو مِنْ أفراده، وقد سلف في أوائل البيوع [خ¦2088]، ويحتمل أن يكونا في وقتٍ فنزلت فيهما.
          وحديثُ عبد الواحد بن زيادٍ عن الأعمش عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيرَةَ: ((ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم))، ذكره عَقِبَ هذا الباب [خ¦2358]، ثمَّ قرأ هذِه الآية: {إِنَّ الَّذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:77].
          قال الدَّارَقُطْنيُّ: ورواه كذلك جماعةٌ، وخالفهم صَالح بن أبي الأسوَدِ فرواه عن الأعمش عن أبي ظَبْيانَ عن أبي هُرَيرَةَ، والصَّحيحُ الأوَّل، ولمَّا رواه الإسماعيليُّ عن ابن خُزَيمة: حدَّثنا سعيدُ بن عبد الرَّحمنِ، حَدَّثَنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن أبي صالحٍ، قال: تابعه عبد الرَّحمنِ بن يونس، وابن أبي الوزير، ومحمَّد بن يونس، فوصلوه عَن ابن عُيَيْنة وجوَّدُوهُ، قال: وَأرسله عَلِيٌّ، وَعبد الجبَّار بن العلاء، وغيرهما.
          وذكر الواحديُّ أنَّ الكلبيَّ قال: إنَّ ناسًا مِنْ علماء اليهود أُولي فاقةٍ اقتَحموا إلى كعب بن الأشرف فسألهم كيف تَعلمون هذا الرَّجلَ، يعني رَسُولَ الله _صلعم_ في كتابكم؟ قالوا: وما تعلمُهُ أنتَ؟ قال: لا، قالوا: نشهد أنَّه عبد الله ورسوله، فقال كعبُ بن الأشرف: لقد حَرَمَكُم الله خيرًا كثيرًا، فقالوا: رُوَيْدَ فإنَّه شُبِّهَ علينا، وليس هو بالنَّعت الَّذِي نُعِتَ لنا، ففَرح كعبٌ فَمَارَهُم وأَنْفَقَ عليهم، فأنزل الله هذِه الآية.
          وقال عِكْرمةُ: نزلتْ في أبي رافعٍ وكِنانة بن أبي الحُقَيْقِ، وحُيَيِّ بن أخطبَ، وغيرِهم مِنْ رؤوس اليهود، كَتَمُوا ما عُهِدَ الله إليهم في التَّوراة في شأن محمَّدٍ، وبدَّلُوهُ وكتبوا بأيديهم غيرَه، وجعلوا أنَّه مِنْ عند الله لئلَّا تفوتَهم الرِّشَا والمآكل الَّتِي كانت لهم على أتباعهم.
          إذا تقرَّر ذلك؛ فالوعيد المذكور يُخشَى إنفاذُه على كلِّ يمينٍ غَموسٍ يُقتطَع بها مالُ أحدٍ بغير حقٍّ.
          وفيه: التَّرجمةُ، وفيه أنَّ البيِّنَةَ على المدَّعي واليمينَ على مَنْ أَنكر، وفيه جوازُ تولِّي الخُصوم بعضِهم بعضًا بما عُرِفَ مِنْ أحوالهم، لقوله: إذنْ يحلفُ ويذهب بحقِّي؛ لأنَّه كان معروفًا بقلَّة التَّقوى، وقد قيل: إنَّه كان يهوديًّا، فإنْ كان كذلك فليس بين المسلم والذِّمِّيِّ قِصاصٌ ولا حَدٌّ، وإن كان غيرَ ذمِّيٍّ فلأنَّه كان معروفًا بالمجاهَرة بالباطل، والدَّليل على هذا القول نزولُ الآية بصِدْقِه لقولِ رَسُول الله صلعم، وليس لمعلومٍ بالأحوال الدنية مِنَ الحُرمة مَا لِصَالِحِ المسلمين.
          فائدة: قال ابن الطَّلَّاع في «الأقضية»: الرَّجلُ الكِنْديُّ هو خالُ أبي سَلَمة بن عبد الرَّحمنِ بن عوفٍ، وأمُّ أبي سَلَمة تُمَاضِرُ، واسمُ الحَضْرَمِيِّ: جَرير بن مَعْدانَ، ويعرف بالحفشيش بالجيم والحاء والخاء، وقال هِشامُ بن محمَّد بن السَّائب الكَلبيُّ: هو الجفشيش، واسمه مَعدانُ بن الأسوَدِ بن مَعْدِي كَرِبَ الكِنْديُّ، فعلى هذا يصحُّ قوله: (ابْنِ عَمٍّ لِي)، وقال ابنُ الأَثير: الحِفشيش اسمُ أبيه النُّعمان، كِنديٌّ، ويُقال: حَضْرميٌّ يُكنى أبا الخير، له وِفادةٌ مع الأشعث في وفد كِندةَ سنة عشرٍ.
          قلت: قد جاء في روايةٍ في البُخارِيِّ أنَّه كان يهوديًّا، والرَّجل الحَضْرميُّ اسمُه رَبيعةُ بن عَيْدَان بفتح العين المهملة وسكون المثنَّاة تحتُ، ويُقال: بكسر العين وبباءٍ موحَّدةٍ بَدَلها، له صحبةٌ وشَهِد فتحَ مصرَ.