التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى

          ░2▒ (بَابُ: مَنْ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ المَاءِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ حتَّى يَرْوَى، لِقَوْلِ النَّبِيِّ _صلعم_: لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ).
          2353- ثمَّ ساقه مِنْ حديث أَبِي هُرَيرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلَأُ).
          2354- ثمَّ ساقه مِنْ حديثه أيضًا بلفظ: (لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الكَلَأَ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ والأربعة، وفي النَّهي عن بيعِ الماء حديثُ إياس بن عبدٍ المُزَنيِّ، صحَّحه التِّرْمِذِيُّ، وفي مسلمٍ عَن جابرٍ: نهى عن بيعِ فضل الماء، زاد الحاكم صحيحًا: وأنْ يبيع الرَّجلُ أرضَه وماءَه، وفي أبي داود مِنْ حديث رجلٍ مِنَ المهاجرين: غزوتُ مع النَّبِيِّ _صلعم_ ثلاثًا أسمعه يقول: ((النَّاس شركاءُ في ثلاثٍ: في الكلأ والماء والنَّار))، وفي إسناده حبَّان بن زيد، وفيه جهالةٌ، وفيه عن والد بُهَيْسَة: ((لا يحلُّ منعُ الماء والملح))، وأخرج الأوَّلَ ابنُ عديٍّ مِنْ حديث ابن عَبَّاسٍ، وردَّه بعبد الله بن خِرَاشٍ، وللحاكم وقال: صحيحُ الإسناد مِنْ حديث عائشة: ((لا يُمنع نقع البئر، وهو الرَّهْوُ))، قال عبد الرَّحمنِ بن أبي الرِّجالِ، عن أبيه: الرَّهْوُ: أن تكون البئر بين شركاء فيها الماء، فيكون للرَّجل فيها فضلٌ فلا يمنع صاحبه. وقال ابن بُرَيدة: منعُ الماء بعد الرِّيِّ مِنَ الكبائر، ذكره يحيى في «خراجه».
          ولا خلاف بين العلماء أنَّ صاحبَ الماء أحقُّ بالماء حتَّى يَرْوَى، لأنَّه _◙_ إنَّما نهى عن منع فضلِ الماء، فأمَّا مَنْ لا يفضُلُ له ماءٌ فلا يدخل في هذا النَّهي، لأنَّ صاحب الشَّيء أولى به، وتأويل المنع عند مالكٍ في «المدوَّنة» وغيره معناه: في آبار الماشية في الصَّحراء يحفرها المرء وبقربها كلأٌ، أي مباحٌ، فإذا منع الماءَ اختصَّ بالكلأ فأُمِرَ ألَّا يمنع فضلَ الماء لئلَّا يكون مانعًا للكلأ.
          والنَّهي فيه على التَّحريم عند مالكٍ والأوزاعيِّ، ونقله الخطَّابيُّ وابن التِّيْنِ عن الشَّافِعِيِّ، واستحبَّهُ بعضُهم وحمله على النَّدب، والأصحُّ عندنا أنَّه يجب بذله للماشية لا للزَّرع، وعند المالكيَّة إذا أُجبر هل يأخذه بالقيمة أم لا؟ قولان سببُهُما معارضة عموم النَّهي عن بيع فضل الماء لأصلِ الملكيَّة، وقياسُ الماء على الطَّعام إذا احتاج إليه، قال القاضي في «إشرافه» في حافِرِ البئر في الموات: لا يجوز له منع مَا زاد على قَدْرِ حاجته لغيره بغير عوضٍ، وقال قومٌ: يلزمُه بالعوض. أمَّا حافرُها في ملكه فله مَنْعُ فضله، وكره مالكٌ مَنْعَ ما عُمِل مِنْ ذلك في الصَّحاري مِنْ غير أنْ يحرِّمَه، قال: ويكون أحقَّ بمائها حتَّى يَرْوى، ويكونُ للنَّاس ما فَضَلَ إلَّا مَنْ مَرَّ بهم لشفاههم ودوابِّهم، فإنَّهم لا يُمنعون كما يُمنع مَنْ سِواهم، وقال الكُوفيُّون: له أن يَمنع مِنْ دخول أرِضه وأخْذِ مائه إلَّا أن يكون لشفاههم وحيوانهم ماءٌ فيسقيهم، وليس عليه سقيُ زرعِهم.
          وقال عيسى بن دينارٍ في تفسير قوله _◙_: ((لا يمنع نقع بئر)) يقول: مَنْ كان له جارٌ انقطع ماؤه، وله عليه زرعٌ أو أصلٌ فلم يجدْ ما يَسقي به زرعَه أو حائطَه وله بئرٌ فيها فضلٌ عن سقي زرعِه أو حائطه فلا يمنع جارَه أنْ يسقيَ بفضل مائه، قلتُ: أفنحكم عليه بذلك؟ قال: لا، وكان يؤمر بذلك، فإنْ أبى منه لم يُقضَ عليه، وقال ابن القاسم: يُقضَى بذلك عليه لجارِهِ بالثَّمن، وقال مالكٌ: بغير ثمنٍ، قال عيسى: فإن باعه فجارُه أولى به.
          وفيه مِنَ الفقه: سدُّ الذَّرائع لأنَّه إذا مَنَعَهُ مَنَعَ الكَلأ، وقال الكُوفيُّون: لا تجوز إجارةُ المراعي ولا بيعُها، ولا يملك الكلأَ صاحبُ الأرض حتَّى يأخذَه فيحوزَه، وهو قول الشَّافِعِيِّ، وقال مالكٌ: لا بأس أن يبيع مراعيَ أرضِه سنةً واحدة، ولا يبيعها سنتين ولَا ثلاثًا، ولا يبيعها حتَّى تَطيب وتبلغَ الخِصْبَ إلى أن يُرعى. وقال الثَّوريُّ: لا بأس أن يَحميَ الكلأ للبيع والشَّجرَ للحَطَب أو البيع.
          وقوله: (لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلَأُ) هذِه اللَّام وإن سمَّاها النَّحويُّون لام كي فهي لبيان العاقبة، كما قال _تعالى_: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] وفي حكم الكلأ حُجَّةٌ لمالكٍ في القول بسدِّ الذَّرائع، وخالفَه الشَّافِعِيُّ وجماعةٌ.
          و(الكَلَا) بالفتح مخفَّفٌ مِنَ الكلأ المهموز، وهو اسمٌ يقع على النَّبات كلِّه أخضرِه ويابِسِه، قال في «المحكَم»: وهو اسمٌ للنَّوع وَلا واحدَ له، وقال الدَّاوُدِيُّ: هو الحشيش، وقال ابن فارسٍ: الكلأ العشب، والعشب الكلأ أَوَّلَ الرَّبيع، لا يُقال حشيشٌ حتَّى يهيج، وإنَّما الحشيش النَّبات اليابس. /
          وقال التِّرْمِذِيُّ: العمل على هذا عند أهل العلم: كرهوا بيعَ الماء، وَهو قول ابن المبارك والشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق، وقد رخَّص قومٌ في بيع الماء منهم الحسنُ، ومَذهبنا أنَّ مَنْ نَبَع في ملكه مَاءٌ صار مملوكًا له، وأبعدَ مَنْ قال: لا يملكه، بل يكون أخصَّ به، أمَّا إذا أخذَه في إناءٍ مِنَ المباح فيملكه على الصَّواب، ونقل بعضُهم الإجماع عليه.
          ونهى عن بيع الماء عطاءٌ، كما أسنده يحيى في «خرَاجه» قال: فذكرتُ ذلك لقتادة، فقال: إنَّما ذلك ماء نهرٍ أو ماء بئرٍ، وأمَّا مَنِ استقى وباع فلا بأس به، وزعم القُرطُبيُّ أنَّ السَّابق إلى الفهم مِنْ قوله: ((نهى عن بيع الماء))، أنَّه الَّذِي يُشرب، وقد حمله بعض العلماء على ماء الفَحل، وفيه بُعْدٌ، قال: والأرجح _إنْ شاء الله_ حَمْلُ الخبر على عمومه، فيجب بذلُ الفضل بغير قيمةٍ، ويفرَّق بينه وبين الطَّعام بكثرتِهِ غالبًا، وعدم التَّشاحِّ فيه، وقلَّةِ الطَّعام غالبًا ووجودِ المشاحَّةِ فيه.