التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل سقي الماء

          ░9▒ (بَابُ: فَضْلِ سَقْيِ المَاءِ)
          ذكر فيه ثلاثةَ أحاديث:
          2363- أحدها: عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُو بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ...) الحديثَ.
          2364- ثانيها: حديثُ أسماءَ بنت أبي بكرٍ في الكُسوف، وذكر الهرَّة.
          2365- ثالثها: حديث ابن عمر في الهرَّة أيضًا.
          الشَّرح: حديث أبي هُرَيرَةَ سبق في الطَّهارة مختصرًا في باب: الماء الَّذِي يُغسل به شعرُ الإنسان [خ¦172]، وسقيُ الماء مِنْ أعظم القربات، قال بعض التَّابعين: مَنْ كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء، وإذا غُفرت ذنوب الَّذِي سقى الكلب فما ظنُّكم بمَنْ سقى مؤمنًا موحِّدًا وأحياه بذلك، قال ابن التِّيْنِ: وقد رُوي عنه مرفوعًا أنَّه دخل على رجلٍ في السِّياق فقال له: ((ماذا ترى؟)) فقال: أرى مَلكين يستأخران وأسودان يدنوان، وأرى الشَّرَّ ينمى والخير يضمحلُّ، فأغثني منك بدعوةٍ يا نبيَّ الله، فقال: ((اللَّهمَّ اشكرْ له اليسيرَ واعفُ عنه الكثير))، ثمَّ قال له: ((ماذا ترى؟)) فقال: أرى الملكين يدنوان والأسودان يستأخران وأرى الخيرَ ينمى والشَّرَّ يضمحلُّ، قال: ((فما وجدتَ أفضل / عملك؟)) قال: سقي الماء.
          وفي حديثٍ: سُئل: أيُّ الصَّدقة أفضل؟ قال: ((سقي الماء))، قال في «الرَّوضة»: وجاءت أحاديث كثيرةٌ بالحثِّ على الصَّدقة بالماء، وقد احتجَّ بهذا الحديث مَنْ أجاز صدقة التَّطوُّع على المشركين لعموم قوله آخر الحديث: (فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).
          وفيه: أنَّ المجازاة على الخير والشرِّ قد يكون يوم القيامة مِنْ جنس الأعمال، كما قال _◙_: ((مَنْ قتل نفسَه بحديدةٍ عُذِّب بها في نار جهنَّم)).
          وقوله: (يَلْهَثُ) قال صاحب «الأفعال»: لَهَِثَ الكلب _بفتح الهاء وكسرها_ إذا دَلع لسانه عطشًا، ولَهَثَ الإنسان أيضًا اشتدَّ عطشه، وقال صاحب «المطالع»: لَهَثَ _بهما_ إذا خرج لسانُه مِنَ شدة العطش أو الحرِّ، واللُّهاث _بضمِّ اللَّام_ حرُّ العطش، وقال ابن التِّيْنِ: يَلْهَث أي يُخرج لسانه مِنَ العطش، وكذلك الطَّائر، ولَهَثَ الرَّجل إذا أعيا، وقيل: معناه يبحث بيديه ورِجليه في الأرض، وفي «المنتهى»: هو ارتفاع النَّفَس، يَلْهَثُ لَهْثًا ولُهَاثًا، ولَهِثَ يَلْهَثُ لَهَثًا ولُهَاثًا إذا عَطِش، واللَّهَثَان _بالتَّحريك_ العطش.
          وقوله: (مِنَ العَطَشِ) كذا رأيناه في الأصول، وذكره ابن التِّيْنِ: العُطاش، ثمَّ قال: وصوابه العَطش، قال: وكذا عند أبي ذرٍّ، وإنَّما العُطاش داءٌ يصيب الصَّبيَّ فيشرب فلا يروى، وقيل يصحُّ على تقدير أنَّ العطش يحدث منه داءٌ فيكون العُطاش اسمًا للدَّاء كالزُّكام.
          وقوله: (يَأْكُلُ الثَّرَى) الثَّرى مقصورٌ يُكتب بالياء إذا كان مِنَ النَّدى، يُقال: كان مطر التُّقى منه الثَّرَيان، أي الباطن والظَّاهر، أي ترشح الأرض لكثرة المطر حتَّى يلتقيَ هو وندى الأرض.
          وقوله: (بَلَغَ هَذَا مِثْل الَّذِي بَلَغَ بِي) قال ابن التِّيْنِ: ضُبط بنصب لامِ (مِثْل) عَلى تقدير أنَّ الكلبَ بلغ مبلغًا مثل الَّذِي بلغ بي، ويصحُّ رفعُه على تقدير أن يكون هذا في موضع نصبٍ تقديره: بلغ هذا الكلب مِنَ العطش مِثل الَّذِي بلغ بي، وهو ما ضبطه الدِّمْياطيُّ بخطِّه.
          وقوله: (فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) قال الدَّاوُدِيُّ: يعني كبد كلِّ حيٍّ مِنْ ذوات الأنفس، وقال أبو عبد الملك: هذا الحديث مِنْ أحاديث بني إسرائيل، فأمَّا الإسلام فقد أمر الشَّارعُ بقتل الكلاب، والحديث خصوصٌ لبعض البهائم، والخنزيرُ والسَّبُع وسائر الوحوش لها كبدٌ رطبةٌ ولا يُستعمَل هذا الحديث فيها؛ لأنَّها تَقْوَى على الضَّرر، ولا يُستعمل الحديثُ إلَّا فيما لا يَضُرُّ مِنَ البهائم. والكَبدُ مؤنَّثةٌ، ولذلك قال: (رَطْبَةٍ)، وفيها لغتان: كَبِدٌ وكِبِدُ ذكره ابن التِّيْنِ، وأهمل ثالثةً كِبْدٌ بالتَّخفيف، حكاها في «المنتهى» كما في فَخِذٍ، وقال أبو حاتم كما نقله في «المخصَّص»: الكَبِدُ يُذَكَّرُ، والجمع أكبادٌ وأكبُدٌ وكُبُودٌ.
          وقوله: (ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الكَلْبَ) كذا هو في الأصول بالياء، وقال ابن التِّيْنِ: كذا وقع (رَقِيَ)، وصوابُه رَقَى، أي: صعد، قال _تعالى_: {أَو تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:93] وأمَّا رَقَى _بفتح القاف_ فمِنَ الرُّقية، وليس هَذا موضعَه، وذَكر أنَّ لغة طيِّئٍ: رقى بمعنى صَعِدَ، ويفعلون كذلك في كلِّ ما كان مِنَ الأفعال معتلَّ اللَّام نحو: عَمِيَ ورَقِيَ يفتحون العين منه.
          وقوله في حديث أسماء: (دَنَتْ مِنِّي النَّارُ) أي مُثِّلَتْ له في القِبلة.
          وقوله: (حَبَسَتْهَا حتَّى مَاتَتْ جُوعًا) فيه أنَّه ليس على الشَّخص إطعامُ ما يعيش بصيدِهِ مِنَ البهائم، والممنوع حبسُها وتركُها مِنْ غير طعامٍ، و(خَـشَاشِ الأَرْضِ) بتثليث الخاء الدَّوابُّ، واقتصر ابن فارسٍ على الفتح، وأبو عُبيدٍ على الكسر، قال: إلَّا الطَّير الصَّغير فإنَّه بالفتح، قال في «الغريب المصنَّف»: وهي شِرارُ الطَّير، وحكى صاحب «المطالع» الضَّمَّ أيضًا، وتَبِعَهُ القُرطُبيُّ، وهي الهوامُّ، وقال الجوهريُّ: هي بالكسر الحشراتُ، وقد تُفتَح. قلتُ: والرَّجل الخَـِشاش: الصَّغيرُ الرَّأس، بالفتح والكَسر، والخشاش: الحيَّة الصَّغيرة.
          قال الدَّاوُدِيُّ: وذكر البُخارِيُّ قصَّة الهرَّة لذكر الكَبِدِ، وعندي إنَّما ذكرها لقوله: (وَلاَ سَقَيْتِهَا) ففي سقي الماء فضلٌ كما سلف.
          وظاهرُ الحديث يدلُّ على تملُّك الهرِّ، وفيه خلافٌ، وهو الأصحُّ لأنَّه أضافها للمرأة باللامٍ الَّتِي هي ظاهرةٌ في الملك.