التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه

          ░10▒ (بَابُ: مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الحَوْضِ وَالقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ)
          ذكر فيه أربعةَ أحاديث:
          2366- أحدها: حديثُ سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ قالَ: (أُتِيَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ بِقَدَحٍ...) الحديثَ، وقد سلف قريبًا [خ¦2351].
          2367- ثانيها: حديثُ أبي هُرَيرَةَ: (عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي، كَمَا تُذَادُ الغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ عَنِ الحَوْضِ).
          2368- ثالثها: حَديثُ ابن عَبَّاسٍ: (قَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَو تَرَكَتْ زَمْزَمَ _أَو قَالَ: لَو لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ_ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا، وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ).
          2369- رابعها: حَديثُ أَبِي هُرَيرَةَ: (عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ...) الحديثَ، وقد سلف قريبًا [خ¦2358]، وفيه: (وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللهُ _تعالى_: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلعم).
          الشَّرح: لا خلافَ فيما تَرجم له، وهو أنَّ صاحب الحوض أحقُّ بمائه؛ لقوله: (لَأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي)، وأمَّا حديثُ سهلٍ في الغلام والأشياخ فصاحبُ الماء واللَّبن أحقُّ به أيضًا أَوَّلًا ثم يستحقُّه المُتيامنُ منه، وكان بين الحوض والقِربة والقَدَح فرقٌ لأنَّه لو كان صَاحبُ القَدَح أحقَّ به أبدًا لما استأْذَنَ الشَّارعُ الغلامَ الَّذِي كان عن يمينه أنْ يعطيَ الأشياخ، وإنَّما تصحُّ التَّرجمة في الابتداء أنَّ صاحب الماء أولى به، ثمَّ الأيمنُ فالأيمنُ أولى مِنْ صاحب الماء أن يعطيَه غيره.
          وإنَّما هذا فيما يُؤكل أو يُشرب مِنَ الموضوع بين يدي الجماعة، وأمَّا في المياه والآبار والجِباب والعيون فصاحبُها أَوْلى بها أَوَّلًا وأَوْلى بها في أن يعطيَ مَنْ شاء آخرًا بخلاف حديث الغلام، وكذلك في مسألة أمِّ إسماعيل هي أحقُّ بمائها أَوَّلًا وآخرًا، وسيأتي في أحاديث الأنبياء [خ¦3364]، وهو مطابقٌ للتَّبويب؛ لقولها: (وَلاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ).
          وقال ابن المُنَيِّرِ: استدلال البُخارِيِّ به ألطفُ مِنْ ذلك؛ لأنَّه إذا استحقَّهُ الأيمنُ في هذِه الحالة بالجلوس واختصَّ، فكيف لا يَختصُّ صاحبُ اليد والمتسبِّبُ / في تحصيلِه؟
          والمراد بالرِّجال الَّذين يُذادون عَن حوضه هم المرتدُّون الَّذين بدَّلوا كما ذكره البُخارِيُّ في «صحيحه» عن قَبيصة فيما سيأتي، وقال ابن التِّيْنِ: هم المنافقون، وقال ابنُ الجوزيِّ: هم المبتدعون، وقال القُرطُبيُّ: هم الَّذين لا سِيْمَا لهم مِنْ غير هذِه الأمَّة.
          فإن قلتَ: كيف يأتون غُرًّا محجَّلين والمُرتدُّ لا غُرَّةَ له ولا تحجيل؟ فالجواب: أنَّه _◙_ قال: ((تأتي كلُّ أمَّةٍ فيها منافقوها))، وقد قال _تعالى_: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] فصحَّ أنَّ المؤمنين يُحشرون وفيهم المنافقون الَّذين كانوا معهم في الدُّنيا حتَّى يُضرَب بينهم بسورٍ، والمنافق لا غُرَّةَ له ولا تحجيل، لكنِ المؤمنون سُمُّوا غُرًّا محجَّلين بالجملة، وإن كان المنافق في خلالهم.
          وقال ابن المُنَيِّرِ: ظنَّ المهلَّب أنَّ وجه الدَّليل مِنْ حديث الحوض اختصاصُ صاحب الحوض بمائه، وهو وَهْمٌ، فإنَّ تنزيل أحكام التَّكاليف على وقائع الآخرة غيرُ ممكنٍ، وإنَّما استدلالُه بقوله: (كَمَا تُذَادُ الغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ عَنِ الحَوْضِ) فما شبَّهَ بذودها في الدُّنيا إلَّا ولِصاحبِ الحوضِ منْعُ غيرِ إِبِلِهِ مِنْ مائه، وَلو كان المنعُ في الدُّنيا تعدِّيًا لَمَا شبَّه به ذلك المنعَ الَّذي هو حقٌّ، وأَخَذَه أيضًا ابن التِّيْنِ مِنْ ذلك.
          فإن قلتَ: كيف خَفي حالهم على صاحب الشَّريعة، وقد قال: ((تُعرَضُ عَلَيَّ أعمالُ أمَّتي))؟ فالجواب: إنَّما يُعرض عليه أعمالُ الموحِّدين لا المنافقين والكافرين، نبَّه عليه ابن الجوزيِّ، وقد يُقال: إنَّهما ليسا مِنْ أمَّته.
          وحديث أبي هُرَيرَةَ قال ابن التِّيْنِ: ليس هو ممَّا يشبه البابَ في شيءٍ، وقال الخطَّابيُّ: معناه إذا كنتَ تمنع فضلَ الماءِ الَّذِي لم تُعطَه بكدِّكَ وكدحك إنَّما هو رزقٌ ساقه الله إليك، فما الَّذِي تَسمح به بعدُ؟
          خاتمة: لمَّا أعاد البُخارِيُّ حديثَ أبي هُرَيرَةَ في ذِكْرَ الحَوض ذَكَرَهُ معلَّقًا مِنْ طريق عُبيد الله بن أبي رافعٍ، عن أبي هُرَيرَةَ، وهذا الحديث ممَّا كَاد أن يبلُغَ مبلغ القَطع والتَّواتر على رأيِ جماعةٍ مِنَ العلماء، يجب الإيمان به فيما حكاه غيرُ واحدٍ، رواه عنه الجمُّ الغفير مِنهم في «الصَّحيح»: ابنُ عمر، وابنُ مسعودٍ، وجابرُ بن سَمُرةَ، وجُنْدُبُ بن عبد الله، وزيدُ بن أرْقَمَ، وعبدُ الله بن عمرٍو، وأنسُ بن مالكٍ، وحُذيفةُ، وأخرجه أبو القاسم اللَّالِكَائِيُّ مِنْ طريق: ثوبانَ، وأبي بَرْدةَ، وجابرِ بن عبد الله، وأبي سعيدٍ الخُدْريِّ، وبُرَيدةَ، وأخرجه القاضي أبو الفضل مِنْ طريق: عقبةَ بن عامرٍ، وحارثةَ بن وهبٍ، والمُسْتَوْرِدِ، وأبي بَرْزةَ، وأبي أُمامَة، وعبدِ الله بن زيدٍ، وسَهْلِ بن سعدٍ، وسُوَيْدِ بن جَبَلَةَ، والصِّدِّيقِ، والفاروقِ، والبراءِ، وعائشةَ، وأسماءَ أختها، وأبي بَكْرة، وخولةَ بنتِ قيسٍ، وأبي ذرٍّ، والصُّنابِحِيِّ في آخرين.
          فائدةٌ: معنى (لَأَذُودَنَّ) لأَطْرُدَنَّ، وفي روايةٍ: ((ليُذَادَنَّ رجالٌ)) أي يُطردُون، قال صاحب «المطالع»: كذا رواه أكثر الرُّواة عن مالكٍ في «الموطَّأ»، ورواه يحيى ومطرِّفٌ وابن نافعٍ: ((فلا يُذَادَنَّ)) وَرَدَّهُ ابن وضَّاحٍ على الرِّواية الأولى، وكلاهما صحيحُ المعنى، والنَّافيةُ أفصحُ وأعرفُ، ومعناه: فلا تفعلوا فِعْلًا يوجِبُ ذلك كما قال _◙_: ((لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم على رقَبتِه بعيرٌ)) أي لا تفعلوا مَا يوجبُ ذلك.
          فائدةٌ: قوله: (اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي) إلى آخرهِ؛ إشارةٌ إلى قوله _تعالى_: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:69] وفيه أنَّه مِنْ باب المعروف لَا الوجوب، وقال عبد الملك: هذا يخفى معناه، ولعلَّه يريد أنَّ البئرَ ليست مِنْ حَفْرِ هذا الرَّجل وهو للسَّبيل، وإنَّما هو في مَنْعِهِ غاصبٌ ظالمٌ، وهذا ليس يريد فيما حازه وعَمِلَه، ويحتمل أن يكون هو حفرها ومنع مِنْ صاحب الشَّفة، ويكون معنى: (مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ) أي بنبعٍ ولا إخراجٍ.