التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب سكر الأنهار

          ░6▒ (بَابُ: سَكْرِ الأَنْهَارِ)
          هو بفتح السِّين وإسكان الكاف حَبْسُ الماء، قاله ابن التِّيْنِ، وكذا قال ابن السِّكِّيتِ: سَكَرْتُ النَّهرَ أَسْكِرُه سَكْرًا: سدَدْتُه، قال صاحب «العين»: والسَّكْرُ اسمُ ذلك السِّداد، أن يُجعل سدًّا لعينٍ ونحوه، ومنه قوله: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر:15]، وقال ابنُ دُريدٍ: أصلُه مِنْ سَكرت الرِّيح: سَكَنَ هبوبُها.
          2359- 2360- قال البُخارِيُّ: (حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ لِلزُّبَيْرِ: اِسْقِ يَا زُبَيْرُ...) الحديثَ، (قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيْ ذَلِكَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
          قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ العَبَّاسِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: لَيْسَ أَحَدٌّ يَذْكُرُ عُروَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ، إلَّا اللَّيْثُ فَقَطْ).
          ░7▒ (بَابُ: شُرْبِ الأَعْلَى قَبْلَ الأَسْفَلِ)
          2361- (حَدَّثَنا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: يَا زُبَيْرُ اسْقِ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ...) الحديث، (قَالَ الزُّبَيْرُ: فَأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ}) الآَيَةُ [النساء:65].
          ░8▒ (بَابُ: شِرْبِ الأَعْلَى إِلَى الكَعْبَيْنِ)
          2362- (حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنا مَخْلَدٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجٍ مِنَ الحَرَّةِ...) الحديثَ، (فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ...}الآية[النساء:65] قَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ: فَقَدَّرَتِ الأَنْصَارُ وَالنَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ _صلعم_: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ حتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إِلَى الجَدْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الكَعْبَيْنِ).
          الشَّرح: حَديثُ ابن الزُّبَير هذا يأتي في التَّفسير أيضًا [خ¦4585]، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          وقوله: إنَّ اللَّيث تفرَّد بذكر عبد الله، فيه نظرٌ، فقد ذَكر الدَّارَقُطْنيُّ أنَّ ابنَ أخي الزُّهْريِّ رواه كذلك أيضًا عن الزُّهْريِّ، قال ذلك ضِرَارُ بن صُرَد عن الدَّرَاوَرْدِيِّ عنه، قال: وكذلك قال ابنُ وَهْبٍ عن يونسَ بن يزيد عن الزُّهْريِّ، ورواه شُعيبُ بن أبي حمزة ومحمَّد بن أبي عتيقٍ وابن جُرَيجٍ ومَعمرٌ وعمر بن سعدٍ، عن الزُّهريِّ، عن عروة عن الزُّبيرِ، لم يذكروا عبد الله، وكذلك قال شَبيبُ بن سعيدٍ عن يونسَ، وتابعه أحمد بن صالحٍ وحَرمَلةُ عن ابن وهبٍ عن يونسَ؛ وهو المحفوظ عن الزُّهريِّ.
          وروى أبو بكر بن المقرئ في «معجمه» الحديثَ مِنْ طريق اللَّيث عن الزُّهريِّ عن عروة: أنَّ حُميدًا _رجلًا مِنَ الأنصار_ خاصمَ الزُّبَيرَ في شِراج الحرَّة فذكره، قال أبو موسى: هذا حديثٌ صحيحٌ له طُرقٌ لا أعلم في شيءٍ منها ذِكرَ حُميدٍ إلَّا في هذِه الطَّريق، قال: وحُميدٌ بضمِّ الحاء وآخره دالٌ.
          ورواه ابنُ عُيَيْنَة في «تفسيره» عَن عمرو بن دينارٍ، عن رجلٍ مِنْ وَلَدِ أمِّ سَلَمة عنها أنَّها قالت: كان بين الزُّبَير وبين رجلٍ خصومةٌ، فجاء رَسُول الله _صلعم_ فقضى للزُّبَير، فقال رجلٌ: إنَّما قضى له لأنَّه ابن عمَّته، فنزلت الآية.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدُها: اختُلف في اسم الأنصاريِّ المذكور: هل هو حاطِبُ بن أبي بَلْتَعَةَ، أو ثعلبةُ بن حاطبٍ، أو حُميدٌ؟ والأوَّلُ واهٍ لأنَّه ليس أنْصاريًّا، وقد ثبت في البُخارِيِّ أنَّه كان بدريًّا، وحكى الأوَّلَ المَهْدَوِيُّ ومَكِّيٌّ في «تفسيرهما»، قال الثَّعلبيُّ: فلمَّا خرجا مرَّا على المِقْداد، فقال: لِمَنْ كان القضاءُ يا أبا ثعلبة؟ فقال: قضى لابن عمَّته، وَلَوى شِدْقَهُ، ففطن إليه يهوديٌّ كان مع المِقْداد، فقال: قاتل الله هؤلاء، يشهدون أنَّه رَسُولُ الله ثم يتَّهِمُونَه في قضاءٍ يُقضى بينهم، وايمُ الله لقد أذنبنا مرَّةً في حياة موسى / فدعانا موسى إلى التَّوبة منه، فقال: اقتلوا أنفسكم، فقتلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفًا في ربِّنا، حتَّى رضي عنَّا، ونُقل عن مجاهدٍ والشَّعبيِّ: أنَّها نزلت في بِشرٍ المنافق والَّذين اختصموا إلى عمر بن الخطَّاب، وحكى الثَّانيَ الواحديُّ في «أسباب نزوله»، وهو الَّذِي سأَلَ المالَ وامتنع مِنْ أداء زكاته.
          وذكر ابن بَشْكُوَالَ: أنَّه ثابتُ بن قيس بن شمَّاسٍ الأنصاريُّ، وقال: قاله شيخُنا أبو الحسنِ بن مُغِيثٍ. قلتُ: ثابتٌ ليس بدريًّا، وقد سلف أنَّ المخاصِم بدريٌّ، قال الزَّجَّاج: كان منافقًا، يعني أنَّه كان مِنْ قبيلة الأنْصار لا مِنَ الأنْصار المسلمين فلا تَخالُفَ، وَقال ابن التِّيْنِ: قائل هَذا الكلام رجلٌ جاهلٌ أو منافقٌ، وقيل: كان بدريًّا، ذكره الدَّاوُدِيُّ، وهو غريبٌ، فذا في البُخارِيِّ كما أسلفناه، ثمَّ قال: فإنْ كان فيه أُنزلت فيحتمل أن يكون معنى الآية: إن كان منه ذلك بعد هذا إلَّا أنَّ النِّفاق مُنْتَفٍ عن أهل بدرٍ لشهوده _◙_ لهم بالجنَّة، وقال في الصُّلح: قد ذُكِرَ أنَّ الرَّجل بدريٌّ فإن يكن أُنزلت فيه فمعناه: لا يكون مستكملَ الإيمان لشهوده _◙_ لأهل بدرٍ بالجنَّة، أو يريد مَنْ فعَلَهُ بعد نزولها.
          قال: ورُوي أنَّها نزلت في رجلٍ منافقٍ خاصم إلى رَسُول الله _صلعم_ رجلًا، فقال له: رُدَّ قضاءَنا إلى عمر فقال الآخر: أجلْ يا رَسُول الله، فقال: ((اُقْفُلَا))، فذهبا إلى عمر فحكيا له، فقال: امكُثَا حتَّى أقضيَ بينكما، فدخل فاشتمل على سيفٍ فخرج وعَلا به القائلَ وفرَّ الآخرُ، فقال النَّبِيُّ _صلعم_ هناك: ((عمرُ ضربَ ضربةً فرَّقَ بها بين الحقِّ والباطل)) فسُمِّي مِنْ يومئذٍ الفاروقَ، وفي روايةٍ أخرى: ((ما كان لابن الخطَّاب أن يقتُلَ نفسًا بغير حقٍّ)) أو قال: ((بغير نفسٍ)) فنزلت.
          ثانيها: قول البُخارِيِّ عن عروة: (خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_...) الحديثَ، قال الإسماعيليُّ: كذا جاء به البُخارِيُّ مرسلًا.
          وقوله: (حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ) قال أبو نُعيمٍ والجَيَّانيُّ: (هُو ابْنُ سَلَّامٍ)، و(مَخْلَدُ) هو ابنُ يزيد، مات سنة ثلاثٍ وتسعين ومئةٍ.
          وقوله في بعض الرِّوايات: <فَلَمَّا أَحْفَظَ الأنصاريُّ>، يُشبه كما قال الخطَّابيُّ أن يكون مِنْ كلام ابن شهابٍ دون نفس الحديث، وقد كان مِنْ عادته أن يصِلَ بعضَ كلامِه بالحديثِ إذا رواه، ولذلك قال له موسى بن عُقبة: مِنْ قولك أو مِنْ قول رَسُول الله صلعم؟ ومعنى أَحْفَظَهُ: أغضبه.
          ثالثها: الشِّرَاجُ بكسر الشِّين المعجمة وتخفيف الرَّاء، قيل: هو واحدٌ، وقيل: جمعٌ، مثل: رَهنٍ ورِهانٍ، وهو مَجرى الماء مِنَ الحَرَّة إلى السَّهل، قال الدَّاوُدِيُّ: وهي نهرٌ عند الحرَّة بالمدينة، وقال أبو المَعالي في «المنتهى»: الشَّرْج: مسيلُ الماء مِنَ الحَزْن إلى السَّهل، والجمع: شِراجٌ وشُروجٌ وشُرُجٌ، وقيل: الشُّرُج جمع شِراجٍ، والشِّراجُ جمع شَرْجٍ، ثمَّ قالوا: شرج، وقال ابن سِيدَهْ: ويجمع على أَشْراجٍ، وفي روايةٍ للبخاريِّ: شَرِيج الحرَّة. وقال أبو عبيدٍ: الشَّرْج: نهرٌ صغيرٌ، قال: والشُّروج والشِّراج: مسايل الماء مِنَ انحدارٍ إلى سهوله، واحدها شَرْجٌ. وقال غيره: شَرَجٌ.
          وقال أبو حَنيفة: تُسمَّى الحواجز الَّتي بين الدِّيار الَّتِي تمسك الماء: الجُدورَ، واحدها جَدْرٌ.
          وقال ابنُ التِّيْنِ: الشِّراج والشَّرْج مجرى الماء مِنَ الحرَّة إلى السُّهولة، قال: وقيل: شِجارٌ جمع شجْرٍ، كبَحْرٍ وبِحارٍ.
          رابعها: الحَرَّةُ مِنَ الأرَضينَ: الصُّلبةُ الغليظةُ الَّتِي ألبستها كلَّها حجارةٌ سودٌ نَخِرةٌ كلُّها، والجمع حَرَّاتٌ وحِرَارٌ، قال سِيْبَوَيْهِ: وزعم يونسُ أنَّهم يقولون حَرَّةٌ وإحَرُّونَ يعنون الحِرَاء كأنَّه جمع إحرَّةٍ، ولكن لا يُتكلَّم بها، وفي «مثلَّث ابن السَّيِّد»: ويجمع أيضًا على حرُّون.
          فائدةٌ: بالمدينة حرَّتان: حرَّة واقمٍ وليلى، زاد ابن عُدَيْسٍ في «المثنَّى والمثلَّث»: حرَّة الحوض بين المدينة والعَقيق، وحرَّة قِباء في قبلة المدينة، زاد ياقوتٌ: وحرَّة الوَبَرة _بالتَّحريك_ على أميالٍ مِنَ المدينة، وحرَّة النَّار قرب المدينة.
          وقوله: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ) قال ابن التِّيْنِ: يُقرأ بفتح الهمزة رباعيٌّ وبكسرها مِنَ الثُّلاثيِّ.
          ومعنى (تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ _صلعم_): تغيَّر، قال ابن فارسٍ: تلوَّن اختلفت أخلاقُه.
          خامسها: قوله: (أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ) هو بفتح الهمزة مِنْ (أَنْ) مفعولٌ مِنْ أجله، ومعناه: مِنْ أجل أنَّه ابن عمَّتك، كقوله _تعالى_: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم:14] لأنَّ أمَّ الزُّبَير صفيَّةَ بنتَ عبد المطَّلب عمَّةُ رَسُول الله صلعم.
          وقوله: (إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ) يجوز فتح الهمزة وكسرها، و(الجَدْرِ) بفتح الجيم وكسرها، ورواه بعضُهم بضمِّها _حكاه أبو موسى المَدينيُّ_ ثمَّ دالٍ مهملةٍ وحُكي إعجامُها: الحائط، وقيل: أصلُ الجدار، وقيل: أصلُ الشَّجر، وقيل: المسنَّاة، وقيل: جدور المشارب الَّتِي يجتمع فيها الماء في أصول النَّخل.
          قال الخطَّابيُّ: هكذا الرِّواية (الجَدْرُ)، والمتْقِنون مِنْ أهل الرِّواية يقولون: يعني بالذَّال المعجمة، وهو مبلغُ تمام الشُّرب، ومنه جَذْرُ الحساب، وهو أصلُه، تقول: عشَرةٌ في عشرةٍ بمئةٍ. وعبارة ابن التِّيْنِ: (الجَدر) أكثر الرِّوايات بفتح الدَّال وفي بعضها بالإسكان، وهو كذلك عند أهل اللُّغة.
          وقول الزُّهريِّ بعد ذلك: (وَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الكَعْبَيْنِ)، قال الدَّاوُدِيُّ: ليس بمحفوظٍ، والمحفوظ أنَّه قال له أوَّل مرَّةٍ: ((أمسك إلى الكعبين)) فلما أغضَبَهُ قال: (احْبِسْ، حتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ).
          وقوله _تعالى_: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] أي فيما اختلفوا فيه، ومنه: تشاجَر القومُ، وأصله مِنَ الشَّجرِ لاختلاف أغصانه، ومنه: شَجَرَهُ بالرُّمح، أي جَعله فيه بمنزلة الغُصن في الشَّجر، و(اسْتَوْعَى) استوفى واستكمل مِنَ الوعاء، وأبعدَ مَنْ قال: أمرَه ثانيًا أن يستوفي أكثر مِنْ حقِّه عقوبةً للأنصاريِّ، حكاه ابن الصَّبَّاغ، والأشبَهُ أنَّه أمره أن يستوفيَ / حقَّه ويستقصيَ فيه تغليظًا على الأنْصاريِّ بعدَ أن سَهَّلَ عليه.
          وقوله: (يَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ) فيه إشارةٌ إلى العادة الَّتِي كانت جرت بينهم مقدار الشَّرب، والشَّريعة إذا صادفت شيئًا معهودًا فلم تغيِّرْه فقد قَرَّرَتْه وَوجب حملُ النَّاس عليه.
          سادسها: قال العلماء فيما حَكاه النَّوويُّ عنهم: لو صَدر مثلُ الكَلام السَّالف: (أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ) اليوم مِنْ إنسان جرتْ على قائله أحكامُ المرتدِّين فيجب قتلُه بشرطه، وإنَّما تَركه الشَّارعُ لأنَّه كان في أوَّل الإسلام يتألَّفُ النَّاس ويدفع بالَّتي هي أحسنُ، ويصبرُ على أذى المنافقين والَّذين في قلوبهم مرضٌ.
          سابعها: فيه أنَّ أصل مياه الأودية والسُّيول الَّتِي لا تُملك منافعها، ولم تُستنبط بعملٍ فيها مِنَ الحَفْرِ ونحوه مباحٌ، وأنَّ مَنْ سبق إليه وأحرزَهُ كان أحقَّ به، وفيه أنَّ أهل الشَّرب الأعلى يُقدَّم على مَنْ هو أسفل، وفيه دليلٌ أنْ ليس للأعلى إذا أخذ حاجَتَه أن يحبِسه عَن الأسفل.
          وقد ذَهب بعضُهم إلى أنَّه نَسَخَ حكمَه الأوَّلَ بحكمه الثَّاني، وقد كان له في الأصل أن يحكم بأيِّهما شاء إلَّا أنَّه قدَّم الأخفَّ مسامحةً وإيثارًا لحكم حُسْنِ الجوار، فلمَّا رَأى الأنْصاريَّ يجهلُ مَوضع حقِّه نَسخ الأوَّل بالآخر، حين رآه أصلحَ، وفي الزَّجر أبلغَ، وقيل: إنَّما كان القولُ الأوَّلُ منه على وجه المشورة للزبير عَلى سبيل المسامحة لجاره ببعض حقِّه، لا على وجه الحكم منه عليه، فلمَّا خالفه الأنصاريُّ استقصى للزُّبير حقَّه وأمرَه باستيفائه منه.
          وفيه دليلٌ أنَّ للإمام أن يعفوَ عن التَّعزير كما له أن يُقيمَه، وقد قيل: إنَّ عقوبتَه وقعتْ في ماله، وكانت العقوبات قد تقع في الأموال، وفيه الإشارةُ بالصُّلح والأمرُ به، قاله المهلَّب، وقال ابن التِّيْنِ: مذهبُ الجمهور أنَّ القاضيَ يُشير بالصُّلح إذا رآه مصلحةً، ومَنعَ ذلك مالكٌ، وعن الشَّافِعِيِّ في ذلك خلافٌ، والصَّحيح جوازُه، وفيه أنَّ للحاكم أن يستوعِيَ لكلِّ وَاحدٍ مِنَ المتخاصمَين حقَّه، إذا لم يرَ قَبولًا منهما للصُّلح ولا رِضًا بما أشار به، كما فعل ◙، وفيه توبيخ مَنْ جَفَا على الإمام والحاكم ومعاقبتُه؛ لأنَّه عاقبه عليه بما قال: بأن استوعَى للزُّبير حقَّه، ووبَّخه _تعالى_ في كتابه بأنْ نفى عنهم الإيمان حتَّى يرضَوا بحكمه، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتَّى يُحَكِّمُوكَ} الآية [النساء:65]. وفيه أنَّه لا يَلزم الصُّلحُ إلَّا لِمَن التزمَه.
          ثامنها: إنَّما حَكَمَ على الأنصاريِّ في حال غضبه مع نهيه أن يحكُمَ الحاكم وهو غضبانُ؛ لأنَّه مفارِقٌ غيرَه مِنَ البشر، إذ العصمةُ قائمةٌ في حقِّه في حال الرِّضا والسَّخط أَلَّا يقولَ إلَّا حقًّا.
          تاسعها: اختلف أصحابُ مالكٍ في صِفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل، قال ابن حَبيبٍ: يُدْخِل صاحبُ الأعلى جميعَ الماء في حَائطه ويسقي به حتَّى إذا بلغ الماء مِنْ قائمة الحائط إلى الكعبين مِنَ القائم فيه أغلق مُغلقَ وصرف مقدارَ مَا زاد مِنَ الماء على مقدار الكعبين إلى مَنْ يليه، فيصنعُ به مثلَ ذلك حتَّى يبلغ ماء السَّيل إلى أقصى الحوائط، وهكذا فسَّر لي مطرِّفٌ وابن الماجِشُون، وقاله ابنُ وَهْبٍ، وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكَعبين أرسله كلَّه إلى مَنْ تحتَه ولم يحبس منه شيئًا في حائطه. قال: والأول أحبُّ إليَّ، وهم أعلم بذلك لأنَّ المدينة دارهما وبها كانت القضيَّة، وبها جرى العمل فيها، وحُكي عن ابن القاسم أيضًا، وقال ابن كِنانةَ: يُمسك مِنْ أعلى الشَّجر إلى الكعبين، وفي الزَّرع إلى شِراك النَّعلين، والجماعة على أنَّ الحُكم الآن أن يمسك إلى الكعبين، قاله ابن التِّيْنِ.
          قال ابن حَبيبٍ: ومَا كان مِنَ الخلج والسَّواقي الَّتِي يجتمع أهلُ القرى على إنشائها وإجراء الماء فيها لمنافعهم، فقَلَّ الماء فيها ونضبَ عنها في أوقات نضوبِه فالأعلى والأسفل فيها بالسَّواء، يقسم على قدر حقوقهم فيها استوت حاجاتهم أو اختلفت، قاله ابن القاسم وغيره، وقال الطَّبريُّ: الأراضي مختلفةٌ فيمسك لكلِّ أرضٍ بقدر ما يكفيها، ورأى أنَّ الجواب للزُّبير قصَّة عَينٍ. وقال القُرطُبيُّ في حَديث الباب: إنَّ الأولى بالماء الجاري الأوَّل فالأوَّل حتَّى يستوفي حاجته، وهذا ما لم يكن أصله ملكًا للأسفل مختصًا به، فإن كان ملكه فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا، وإنْ كان يمرُّ عليه.
          وفيه: الاكتفاء للخصوم بما يُفهم عنهم مقصودهم وألَّا يكلِّفوا النَّصَّ على الدَّعاوى ولا تحرير المدَّعى فيه ولا حصره بجميع صفاته، وفيه إرشادُ الحاكم إلى الإصلاح.