التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا قال الرجل لوكيله ضعه حيث أراك الله

          ░15▒ (بَابُ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، وَقَالَ الوَكِيلُ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ)
          2318- ذكر فيه: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ...) الحديث بطوله، وقد سلف في الزَّكاة [خ¦1461].
          (تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ مَالِكٍ: رَابِحٌ).
          و(يَحْيَى) هذا هو الخُراسانيُّ، وهو مِنْ جِلَّة أصحاب أهل الحديث، وَثَمَّ آخرُ غسَّانيٌّ وأندلسيٌّ صاحب مالكٍ وغير ذلك، و(أَبُو طَلْحَةَ) / جدُّ إسحاق، اسمُه زيد بن سهلٍ الصَّحابيُّ البدريُّ، مات سنة أربعٍ وثلاثين، ووقع في «كتاب ابن التِّيْنِ» أنَّ اسمَه خالدٌ، فاحذره.
          وقوله: (قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ) يدلُّ على قَبوله _◙_ لَمَّا جعل إليه أبو طلحة مِنَ الرَّأي في وضعها، ثم رَدَّ رَسُولُ الله _صلعم_ الوضعَ فيها إلى أبي طلحة بعد أن أشار عليه فيمَنْ يَضعُها.
          وفيه أنَّ للوكيل أن يَقبل ما وُكِّل عليه وله أن يَرُدَّ، وأنَّ الوكالة لا تتمُّ إلَّا بقَبول الوكيل، ألا ترى أنَّ أبا طلحة قال لرسول الله _صلعم_: (فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ) فأشار عليه بالرَّأي، ورَدَّ عليه العملَ، وقال: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ) فتولَّى أبو طلحة قسمتَها.
          وفيه: أنَّ مَنْ أخرج شيئًا مِنْ ماله لله ولم يُمَلِّكه أحدًا فجائزٌ أن يضعَه حيث أراه الله مِنْ سبل الخير، وجائزٌ أن يشاور فيه مَنْ يثق برأيه مِنْ إخوانه، وليس لذلك وجهٌ معلومٌ لا يتعدَّى، كما قال بعض النَّاس: يعني قول الرَّجل: لله، وفي سبيل الله، في وجهٍ دون وجهٍ، ألا ترى هذِه الصَّدقة الموقوفة رَجَعت إلى قرابة أبي طلحة، ولو سبَّلَها في وجهٍ مِنَ الوجوه لم تُصرف إلى غيرِه.
          واختلف الفقهاء إذا قال الرَّجل: خذ هذا المال فاجعله حيثُ أراك الله مِنْ وجوه الخير، هل يأخذُ مِنْ نفسه إن كان فقيرًا أم لا؟ فقالت طائفةٌ: لا يأخذ مِنْهُ شيئًا لأنَّه إنَّما أُمر بوضعه عند غيره، وهذا يشبه مذهب مالكٍ في «المدوَّنة» كما قاله ابن بَطَّالٍ: سُئل مالكٌ عن رجلٍ أوصى بثلث ماله لرجلٍ أن يجعله حيثُ رأى، فأعطاه وَلَدَ نفسِه _يعني ولد الوَصِيِّ_ أو أحدًا مِنْ ذوي قرابته؟ قال مالكٌ: لا أرى ذلك جائزًا، وقال آخرون: يأخذ منه كنصيب أحدِ الفقراء، وقال آخرون: جائزٌ أن يأخذَه لنفسه كلَّه إن كان فقيرًا.
          ووجْهُ مَنْ قال: لا يأخذُ منه شيئًا لنفسه لأنَّ ربَّه وَضَعَهُ في الفقراء، ولم يأذَنْ له أن يأخذَه لنفسه، ولو شاء أن يعطيَه له لم يأمرْه أن يضعَه في غيرِه، وكأنَّه أقامَه مُقام نفسه، ولو فرَّقَه ربُّه لم يحبس منه شيئًا، ووجهُ قول مَنْ قال: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء فهو أنَّ ربَّه وَضَعَه في الفقراء، وهو أحدهم، فلم يتعدَّ ما قيل له، ووجه قول مَنْ قال: إنه يأخذه كلَّه لنفسه، أنَّ ربَّه أمرَه أن يضعه في الفقراء، ومعلومٌ أنَّه لا يُحيط بجماعتهم، وأنَّ المال إنَّما يوضَع في بعضِهم، وإذا كان فقيرًا فهو بعضُهم؛ لأنَّه مِنَ الصِّفة الَّتِي أَمَرَهُ أن يضعه فيهم.
          وفيه وفي الآية دليلٌ على فضل الكَفاف على الغنى والفقر؛ لقوله _تعالى_ {مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ولم يقل ما تحبُّون، وفيه دخول الشَّارع حوائطَ أصحابه، وشربه مِنَ الماء العذب.
          والذُّخْرُ ما يعتدُّ به، و(بَيْرُحَاءَ) يمدُّ ويقصر، وقد سلف ما فيه بزيادة، و(بَخٍ) كلمةٌ تقولها العرب عند قَبول فِعْلِ مَنْ تُخاطبه، يقال عند مدح الشَّيء: وتبَخْبَخَ فلانٌ، إذا قال ذلك، و(رَائِحٌ) أي يَروح لصاحبه بالأجر إلى يوم القيامة أو يروح عليه في الآخرة بالأجر العظيم، ومَنْ رواه بالباء أي مربوحٌ فيه، وقيل: وضَعه صاحبُه موضعَ الرِّبح، تقول العرب: متجر رابحٌ، ويقال: مربحٌ.
          وفيه: رواية الحديث بالمعنى لأنَّه إنَّما قال إحدى الكلمتين، نبَّهَ عليه الدَّاوُدِيُّ وليس بِبَيِّنٍ، وإنَّما هي روايةٌ بالياء وأخرى بالباء.
          وقوله: (إِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ) مع قوله: (فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ) فيه أنَّ للوكيل ألَّا يَقبَلَ الوكالة كما سلف، وأنَّ الصَّدقة على الأقارب لها فضلٌ، وفي حديثٍ آخر أنَّه قسمها بين أُبَيٍّ وحسان.
          وقوله: (أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ) هو فعل مستقبلٍ مرفوعٌ، وقال الدَّاوُدِيُّ: يحتمل أن (اِفْعَل) أنت ذاك، قد أمضيتُه على ما قلتَ فجعله أمرًا، والأَوَّلُ أَولى لقوله: (فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ).
          وفيه الرَّجل إذا تصدَّق بمُعَيَّنٍ يُخرجه كلَّه، بخلاف قوله: مالي صدقةٌ، أَنَّه يُخرج الثُّلُثَ، فهذا أصلٌ لِمَنْ عَيَّنَ شيئًا مِنْ ماله، ولو عيَّن ماله كلَّه وجب عليه إخراجُه، وليس في الحديث في ذلك بيانٌ، بل فيه أنَّ ذلك كان يسيرًا مِنْ مال أبي طلحة؛ لأنَّه ذكر أنَّه كان أكثر أنصاريٍّ بالمدينة مالًا.
          واختَلفت المالكيَّة إذا عين شيئًا مِنْ ماله، هل يخرج ثلثه أم جميعَه؟ وكذلك إذا كان أكثر مِنْ ثلثه، هل يخرج جميعه أو يقتصر على ما حمل الثُّلث منه كالوصايا؟ ذكره ابن الجَلَّاب، وليس في الحديث بيانٌ لشيءٍ مِنْ ذلك، بل قال: (فَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إليَّ)، فدلَّ أنَّ له أموالًا غيره.