التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا وكل رجلًا فترك الوكيل شيئًا فأجازه الموكل

          ░10▒ (بَابُ: إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا فَتَرَكَ الوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ المُوَكِّلُ فَهُو جَائِزٌ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ)
          2311- (وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الهَيْثَمِ: حَدَّثَنا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيْرِيْنَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ _صلعم_ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ...) فذكر حديثًا فيه: (دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ)، وفيه: أنَّه علَّمه آيَةَ الكُرْسِيِّ، وأنَّها حِرز مِنَ الشَّيطان.
          كذا علَّقه هنا، وفي صفة إبليسَ [خ¦3275] وفضائلِ القرآن [خ¦5010]، ووصله النَّسائيُّ عن إبراهيم بن يعقوب، حَدَّثَنا عثمان، فذكره. ووصله الإسماعيليُّ مِنْ حديث الحسن بن السَّكن، وعبد العزيز بن سلامٍ، عنه. وأبو نُعيمٍ مِنْ حديث هلال بن بشرٍ، عنه. وللتِّرمذيِّ نحوُه مِنْ حديث أبي أيُّوب، وقال: حسنٌ غريبٌ. وزعم ابن العربيِّ أنَّ البخاريَّ رواه مقطوعًا، قال: وقد صحَّحه قومٌ وضعَّفَه آخرون.
          و(عُثْمَانُ) هذا / مؤذِّن البصرة، مات بعد المئتين، و(عَوْفٌ) هو ابن أبي جَميلة رَزِينة، عاش سبعًا وثمانين سنةً.
          إذا تقرَّر ذلك؛ فقولُه في التَّرجمة: (فَتَرَكَ الوَكِيلُ شَيْئًا) يريد أنَّ أبا هريرة ترك الَّذي حثا الطَّعامَ حين شكا الحاجة، فأخبر بذلك رَسُولَ الله _صلعم_ فأجاز فِعْلَه ولم يَرُدَّهُ، ففُهِم منه أنَّ مَنْ وُكِّلَ على حفظ شيءٍ أو اؤتُمن على مالٍ فأعطَى منه شيئًا لآخر أنَّه لا يجوز وإن كان بالمعروف؛ لأنَّه إنَّما جاز فعلُ أبي هريرة لإجازة الشَّارع له لأنَّه لم يوكِّل أبا هريرة على عطاءٍ، ولا أباح له إمضاءَ ما انتُهِب منه، وإنَّما وكَّله بحفظِهِ خاصَّةً، والدَّليلُ على صحَّة هذا التَّأويل أنَّه ليس لِمَن اؤتمن على شيءٍ أن يتلِفَ منه شيئًا، وأنَّه إذا أتلفه ضَمِنَه، إلَّا أن يجيزه ربُّ المال، وفي تعلُّق جواز ذلك بإجازة ربِّ المال دليلٌ على صحَّة الضَّمان لو لم يُجِزْهُ. قال ابن بَطَّالٍ: ولا أعلم فيه خلافًا بين الفقهاء.
          وأمَّا قوله: (وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ) فلا أعلم خلافًا بين الفقهاء أنَّ أحدًا لا يجوزُ له أن يُقرِضَ مِنْ وديعةٍ عندَه أو مالٍ يستحفظُه لأحدٍ شيئًا، لا حالًّا ولا إلى أَجَلٍ، ولكنَّه إنْ فعَلَ كان ربُّ المال مخيَّرًا بين إجازةِ فِعْلِه، أو تضمينِه، أو طلبِ الَّذي قَبَض المال.
          ويُخَرَّجُ قولُه: (وَإِنْ أَقْرَضَهُ...) إلى آخره مِنْ أنَّ الطَّعام كان مجموعًا للصَّدقة، فلمَّا أخذ السَّارقُ، وقد حثا مِنَ الطَّعام وقال له: دعني فإنِّي محتاجٌ، فَتَرَكَهُ، فكأنَّه سَلَّفَهُ ذلكَ الطَّعامَ إلى أَجَلٍ، وهو وقتُ قِسمته وتفْرِقَتِه على المساكين؛ لأنَّهم كانوا يجمعونه قبل الفطر بثلاثة أيَّام للتَّفرقة، فكأنَّه سَلَّفَهُ إلى ذلك الأَجَل.
          وفيه: أنَّ السَّارق لا يُقطع في مجاعةٍ، وأنَّه يجوز أن يُعفَى عنه قبل أن يبلغ الإمام، وأنَّه قد يُعَلِّمُ الشَّيطانُ علمًا ينتفع به إذا صَدَقَهُ.
          وفيه أنَّ الكذَّابَ قد يَصْدُقُ في النُدْرَة، وفيه علاماتُ النُّبوَّة لقوله: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ)، وفيه تفسيرٌ لقوله _تعالى_: {إنَّهُ يَرَاكُمْ هُو وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] يعني الشَّياطين أنَّ المراد بذلك ما هم عليه مِنْ خِلْقتهم الرُّوحانيَّة، فإذا شُخِّصوا في صورة الأجسام المدرَكة بالعين جازت رؤيتُهم كما تَشَخَّصَ الشَّيطان في هذا الحديث لأبي هريرة في صورة سارقٍ.
          وفي التِّرْمِذِيِّ في الحديث السَّالف: غولٌ.
          وقوله: (يَحْثُو) هو بالواو، ويقال بالياء، وهي أعلى اللُّغَتين، وكلُّهُ بمعنى الغَرف، وفيه أنَّ الجِنَّ يأكلون الطَّعام، وهو مُوافقٌ لقوله _◙_: ((سأَلوني الزَّاد)) وإن كان في شِعر العرب أنَّهم لا يأكلون كما حكاه ابنُ التِّيْنِ، فإن قيل: أخذه متمرِّدًا، فالظَّاهر خلافه؛ لأنَّه لو كان متمرِّدًا غير محتاجٍ إلى طعامٍ ما علَّمَه آية الكرسيِّ.
          وفيه ظهور الجِنِّ وتكلُّمُهم بكلام الإنس وسَرِقَتُهم، وفيه قَبول عذر السَّارق.
          وقوله: (وَعَلَيَّ عِيَالٌ) أي نفقةُ عيالٍ، مثلُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] ويحتمل أن يكون بمعنى: لِي، والأوَّل أَبْيَنُ. وعنِ الدَّاوُدِيِّ: قيل له أسيرٌ لأنَّه كان رَبَطَه بسَيْرٍ، وهو الحبل مِنَ الجلد، وهذِه عادةُ العرب كانوا يربُطون الأسيرَ بالقِدِّ، وهو الأَسر بفتح الهمزة، واعترض ابنُ التِّيْنِ، وقال: قول الدَّاوُدِيِّ: إنَّ السَّيْرَ الحبلُ مِنَ الجلد لم يذكره غيره، وإنَّما السَّيْرُ الجِلد، فلو كان مأخوذًا ممَّا ذكره لكان تصغيره سُيَيْر، ولم تكن الهمزةُ فاءه.
          وفي «الصِّحاح»: شَدَّهُ بالإسار، وهو القِدُّ، وفي بعض روايات هذا الحديث: فقال الشَّيطان: أُعَلِّمُكَ آيةً، فلا يقربك شيطانٌ، قلتُ: وما هي؟ قال: لا أستطيع أن أتكلَّم بها، آية الكرسيِّ.
          ومعنى (رَصَدْتُهُ): أعددته.
          وفيه وعيدُ أبي هريرة برفعه إليه وخدعةُ الشَّيطان، وفيه أنَّ الثَّالثة بلاغٌ في الإعذار، وفيه فضلُ آية الكرسيِّ، وقال ابنُ مسعود: إنَّها أعظم آيةٍ نزلت، ولم يُنكر عليه عمر، يعني: أعظم ثوابًا، وفيه أنَّ للشَّيطان نصيبًا مِنْ تَرْكِ ذِكر الله عند المنام، وحِفظُ الشَّياطين لبعض القرآن.
          وقوله: (فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ حَتَّى خَاتِمَتِهَا) أي: {العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة:255].