شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ذكر الدجال

          ░26▒ بابُ ذِكْرِ الدَّجَّالِ.
          فيه: الْمُغِيرَة(1): (مَا سَأَلَ النَّبيَّ صلعم أَحَدٌ عَنِ الدَّجَّالِ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لي: مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ، وَنَهَرَ مَاءٍ، قَالَ: هُوَ أَهْوَنُ على اللهِ مِنْ ذَلِكَ). [خ¦7122]
          وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: (أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّها عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ). [خ¦7123]
          وفيه: أَنَسٌ، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَجِيءُ الدَّجَّالُ حتَّى يَنْزِلَ في نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، فتَرْجُفُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ). [خ¦7124]
          وفيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ(2) أَبْوَابٍ، لِكُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ). [خ¦7125]
          وفيه: ابْن عُمَرَ: (قَامَ النَّبيُّ صلعم فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ، وَلَكِن سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، إِنَّه أَعْوَرُ، وَإِنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ). [خ¦7127]
          وزاد ابنُ عبَّاس، وَأَنَس، وأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم: (بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ).
          وفيه: ابنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، إِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يَنْطُفُ، أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً، فقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاس شَبَهًا بِهِ(3) ابْنُ قَطَنٍ، رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ). [خ¦7128]
          وفيه: عَائِشَةُ: (سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَسْتَعِيذُ بِاللهِ(4) في صَلاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ). [خ¦7129]
          وفيه: حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ(5): الدَّجَّالِ مَعَهُ مَاءٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَمَاؤُهُ نَارٌ). [خ¦7130]
          إن قال قائل: ما معنى قوله ◙: (تَرْجُفُ المَدِيْنَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ) وقد قال في حديث أبي بكرة أنَّه (لَا يَدْخُلُ المَدِيْنَةَ رُعْبُ المَسِيحِ)؟
          قال المهلَّب: فالجواب / أنَّ رجفات المدينة ليست مِن رعبِه ولا مِن خوفِه، وإنَّما ترجف المدينة لمَن يتشوَّف إلى الدَّجَّال مِن المنافقين فيخرجُهم أهل المدينة كما قال صلعم أَنَّها ((تَنْفِي خَبَثَهَا)).
          والدَّليل على أنَّ المؤمنين فيها لا يُرعبون مِن الدَّجَّال أنَّه يخرج إليه منهم رجل(6) يناظرُه وهو الَّذي يقول له الدَّجَّال: أرأيت إن قتلت هذا ثم أحييتُه أتشكُّون في الأمر؟ فيقولون: لا. يعني فيقول المنافقون الَّذين معه غير ذلك الرَّجل الصَّالح فيقتلُه ثم يحييه، فيقول ذلك الرجل: والله ما كنت قطُّ أشدَّ بصيرة منِّي اليوم، فيريد الدَّجَّال أن يقتلَه فلا يُسَلَّطُ عليه، فهل يدخل رعبُه المدينة وأحدُهم يناظرُه ويقارعُه ويجهر له بأنَّه الدَّجَّال؟ ولا يوهن قلبَه ما يراه مِن قدرة الله الَّذي أقدرَه على أن يقتل رجلًا ثم يحييه ولا يخاف(7) على مهجتِه وهو وحدَه لا يمتنع منه بعدد ولا عدَّة ولا جماعة.
          فإن قال قائل: فإذا سُلِّطَ الدَّجَّال على قتل رجل وإحيائِه فهذا دليل(8) أنَّ الله تعالى(9) يعطي آيات الأنبياء وقلب الأعيان أهل الكذب على الله تعالى وأشدَّ أعدائِه فرية عليه.
          قال الطَّبري: فنقول: أنَّه لا يجوز أن تعطى أعلام الرُّسل أهل الكذب والإفك في الحال الَّتي لا سبيل لمَن عاين ما أتى به الفريقان إلى الفصل بين المُحقِّ منهم والمبطل، فأمَّا إذا كان لمَن عاين ذلك السَّبيل إلى علم الصَّادق ممَّن ظهر ذلك على يدِه مِن الكاذب، فلا ينكر إعطاء الله تعالى ذلك الكذَّابين لعلَّة مِن العلل كالَّذي أعطى الدَّجَّال مِن ذلك فتنة لمَن شاهدَه، ومحنة لمَن عاينَه ليعلم الله الَّذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
          فإن قيل: وما السَّبب الَّذي يصيب به مَن عاين ما يظهر مِن ذلك على يد الدَّجَّال أنَّه مبطل؟
          قيل: أبين الأسباب في ذلك أنَّه ذو أجزاء مؤلَّفة، وتأليفُه عليه بِكَذِبِه شاهد، وأنَّ تأثير الصَّنعة فيه لمَن ركب أعضاءَه خلق ذليل وعبد مهين، مع آفة به لازمة مِن عور إحدى عينيه، يدعو النَّاس إلى الإقرار بأنَّه ربُّهم الَّذي خلقَهم، فأسوأ حالات مَن يراه مِن ذوي العقول أن يعلم أنَّه لم يكن ليسوِّي خلق غيرِه ويعدِّلَه ويحسِّنَه، وهو على دفع العاهات عن نفسِه غير قادر.
          وأقلُّ(10) ما يجب أن يقول له مَن يدعوه إلى الإقرار له بالألوهيَّة: إنَّك تزعم أنَّك خالق السَّموات والأرض وما فيهما وأنت أعور ناقص الصُّورة، فصوِّر نفسك وعدِّلها على صورة مَن أنت في صورتِه إن كنت محقًّا في ذلك، فإن زعمت أنَّ الرَّبَّ لا يُحْدِثُ في نفسِه شيئًا فإنَّك راكب مِن الخطايا أرذلَها، فتحوَّلْ مِن الجماد إلى أشرف منه أو أَزِلْ(11) ما هو مكتوب بين عينيك مِن الكتاب الشَّاهد على كذبك.
          قال المهلَّب: وأمَّا قولُه في حديث المغيرة: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جَبَلُ خُبْزٍ ونَهْرُ مَاءٍ. قال النَّبيُّ(12) صلعم: (هُو أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ). يريد والله أعلم: هو أهون على الله(13) مِن أن يفتن النَّاس به فيُمَلِّكَهُ معايش أرزاقِهم وحياة أرماقِهم، فتعظم بذلك فتنتُهم، بل تبقى عليه ذلَّة العبوديَّة بتحويجِه إلى معالجة المعاش، وقد مَلَّكَه ما لا يَضُرُّ به إلا مَن قضى الله له بالشَّقاء في أمِّ الكتاب، وإنَّما يوهم النَّاس أنَّ هذه نار يشير إليها ليخافَه مَن لا بصيرة له في دين الله فيتبعَه مخافتَها على نفسِه، ولو أنعم النَّظر لرأى أنَّها ماء بارد وكذلك لما توهن به وهو ماء لمَن لا بصيرة له ولا عنده علم بما قدَّمه الرَّسول صلعم مِن العلم لأمَّتِه بأنَّ نارَه ماء، وماءَه نار، ومَن أعطي فتنتَه ثم جعل له على تلك الفتنة علم بطلانها ومحالَها لم تكن فتنة شاملة، ولا يفتتن بها إلا الأوَّل(14) لافتضاحِها بأوَّل من يلقى فيها فيجدُها بخلاف ما أَوْهَمَ فيها، ولولا انتقالُه مِن بلد إلى بلد لأُمِنَت تلك الفتنة إلا على الأوَّل، لكنَّه يرد كلَّ يوم بلدة لا يعرف أهلُها ما افتضح مِن أمرِه في غيرِها فيظل يفتن، ويعصم الله العلماء منه، ومَن عَلِم علامة الرَّسول صلعم وثبَّته الله تعالى فاستدلَّ(15) بأنَّ مَن كان ذا عاهةٍ لا يكون إلهًا فقد بان أنَّه أهون على الله مِن أن يُمَكِّنَه مِن المعجزات تمكينًا صحيحًا، لأنَّ إقدارَه على قتل الرَّجل وإحيائِه لم يستمرَّ له في غيرِه ولا استضرَّ به المقتول إلا ساعة ألمِه، وقد لا يجد لقتلِه ألمًا لقدرة الله على دفع ألمِه عنه، فإنْ آلَمَه آجرَه بذلك(16) في الآخرة، وإن لم يؤلمْه فقد أدام(17) له الحياة بإحيائِه، ثم لا يُسَلَّطُ على قتل أحد ولا إحيائِه.
          وذكر علي بن مَعْبَد عن عبد الله بن عُمَرو عن زيد بن أبي أُنَيسة عن أشعث بن أبي الشَّعثاء عن أبيه عن ابن مسعود قال: إن الدَّجَّال يرحل(18) في الأرض أربعين ليلة، وعن أبي مِجْلَز قال: إذا / خرج الدَّجَّال فالنَّاس ثلاث فرق: فرقة تقاتلُه، وفرقة تفرُّ منه، وفرقة تشايعُه، فمَن تحرَّز منه في رأس جبل(19) أربعين ليلة أتاه رزقُه، وأكثرُ مَن يشايعُه أصحاب العيال يقولون: إنَّا لنعرف ضلالتَه، ولكن لا نستطيع ترك عيالنا، فمَن فعل ذلك كان منه.
          وذكر الطَّبري بإسنادِه(20) عن أبي أمامة الباهلي، عن النَّبي صلعم أنه حدَّثهم عن الدجال: ((أنه يخرج بين الشام والعراق فيقول أنه نبيٌّ، ثم يثنِّي فيقول: أنا ربكم وأنه يأتي بجنة ونار، فناره جنة وجنته نار. فمن(21) ابتلي بناره فليستعن بالله، فأنها تكون عليه بردًا وسلامًا ومن ابتلي به فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف(22) وليتفل في وجهه، فأنه لا يعدو ذلك، ويقتل رجلًا ثم يحييه وليس يحيي أحدًا بعده، وإن له أربعين يومًا يوم كالسنة ويوم كالشهر ويوم كجمعة ويوم كسائر الأيام، ويعدو الرجل من باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتَّى تغيب الشمس)).
          وروى الطَّبري بإسناده عن قَتادة عن شهر بن حَوْشَب عن أسماء بنت يزيد أنَّ النَّبيَّ صلعم ذكر عندها الدَّجَّال فقال: ((إِنَّ قَبْلَ خُرُوجِهِ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا والأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِها، والعَامُ الثَّاني تُمْسِكُ السَّماءُ ثُلُثَي قَطْرِهَا والأَرْضُ ثُلُثَي نَبَاتِهَا، والعَامُ الثَّالثُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا والأَرْضَ نَبَاتَها حتَّى لَا يَبْقَى ذَاتُ ضِرسٍ ولَا ذَاتُ ظِلفٍ إلَّا مَاتَ، ومِنْ أَعْظَمِ فِتْنَتِهِ أَنَّهُ يَأْتِي الرَّجُلَ فَيَقُولُ لَهُ: إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ أَبَاكَ أَوْ أخَاكَ(23) أَو عَمَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَتَمَثَّلُ لَهُ شَيَاطِينٌ عِنْدَهُ(24). ويَأْتِي الأَعْرَابِيُّ فَيَقُولُ: إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ إِبِلَكَ عِظَامًا ضُرُوعُهَا، طِوَالًا أَسْنِمَتُهَا تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَتَمَثَّلُ(25) لَهُ شَيَاطِينُ عِنْدَهُ. فَبَكَى القَومُ فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: إِنْ يَخْرُجْ فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ، وإِلَّا فَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُؤمِنٍ. قَالَتْ أَسْمَاءُ: مَا يَكْفِي المُؤْمِنَ يَوْمَئِذٍ مِن الطَّعَامِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يَكْفِيهِ مَا يَكْفِي أَهْلَ السَّمَاءِ التَّسْبِيحَ والتَّقْدِيْسَ)).
          وذكر ابن أبي شيبة بإسنادِه عن عائشة أنَّ النَّبي صلعم قال: ((يَخْرُجُ مَعَ الدَّجَّالِ يَهُودُ أَصْبَهَانَ فَيَقْتُلُهُ عَيسَى بنُ مَرْيَمَ بِبَابِ لُدٍّ، ثُمَّ يَمْكُثُ عِيسَى فَي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ قَرِيْبًا مِنْهَا إِمَامًا عَدْلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا)).
          قال الخطَّابي: قال ثعلب: الطَّافية: العنبة الَّتي قد خرجت عن حدِّ بنية أخواتها فعلت ونتأت وظهرت، يقال: طفا الشَّيء إذا علا وظهر، ومنه الطَّافي مِن السَّمك.


[1] زاد في (ص): ((قال)).
[2] قوله: ((سبعة)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((به شبهاً)).
[4] قوله: ((بالله)) ليس في (ص).
[5] زاد في (ص): ((في)).
[6] قوله: ((رجل)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((ولا يخافه)).
[8] في (ص): ((يدل)).
[9] زاد في (ص): ((قد)).
[10] في (ص): ((فأقل)).
[11] في (ص): ((وأزل)).
[12] قوله: ((النَّبي)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((على الله)) ليس في (ص).
[14] في (ص): ((الأقل)).
[15] في (ص): ((واستدل)).
[16] من قوله في شرح الحديث (6167): ((وقع في هلكة)) إلى قوله هنا: ((فإن آلمه آجره بذلك)) ليس في (ت).
[17] في (ت) و(ص): ((أجار)).
[18] في (ت): ((يدخل)).
[19] في (ص): ((جبال)).
[20] في (ز): ((إسناده)) والمثبت من (ت) و(ص).
[21] في (ص): ((من)).
[22] قوله: ((وسلاماً ومن ابتلي به فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)) ليس في (ت) و(ص).
[23] في (ت): ((أباك وأخاك)).
[24] في (ص): ((غيره)).
[25] في (ت): ((فيتمثل)).