شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الفتنة التي تموج كموج البحر

          ░17▒ بابُ الْفِتْنَةِ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ. /
          وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بنِ حَوْشَبٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّة                     تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا                     وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ                     مَكْـرُوهَـةً لِـلشَّـمِّ وَالتَّقْبِيلِ
          فيه: حُذَيْفَةُ: (قَالَ عُمَرُ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رسُول الله صلعم فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاة وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا(1) أَسْأَلُكَ، وَلَكِنِ الَّتَي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عُمَرُ ☺: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: إِذًا لَا يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْتُ: أَجَلْ، قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ، قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأغَالِيطِ، فَهِبْنَا(2) أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ: مَنِ الْبَابُ؟ فقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ). [خ¦7096]
          وفيه: أَبُو مُوسَى: (خَرَجَ النَّبيُّ صلعم يَوْمًا(3) إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ، جَلَسْتُ على بَابِهِ، وَقُلْتُ: لأَكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبيِّ صلعم وَلَمْ يَأْمُرْنِي، فَذَهَبَ النَّبيُّ صلعم وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَجَلَسَ على قُفِّ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فدَلَّاهُمَا في الْبِئْرِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ ☺ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَوَقَفَ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبيِّ صلعم، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ، فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ(4) النَّبيِّ صلعم فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَجَاءَ عُمَرُ ☺، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبيِّ صلعم فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ودَلَّاهُمَا في الْبِئْرِ، فَامْتَلأ الْقُفُّ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ(5)، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، مَعَها(6) بَلاءٌ يُصِيبُهُ، فَدَخَلَ، فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا، فَتَحَوَّلَ حتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ على شَفَةِ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ دَلاهُمَا في الْبِئْرِ، فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لي وَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَأْتِيَ).
          قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ اجْتَمَعَتْ هَاهُنَا، وَانْفَرَدَ قبر عُثْمَانُ. [خ¦7097]
          وفيه: أَبُو وَائِل: (قِيلَ لِأُسَامَةَ: أَلَا تُكَلِّمُ هَذَا؟ قَالَ: قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا دُوْنَ أَنْ أَفْتَحَ(7) بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ، وَمَا أَنَا بالَّذي أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ: أَنْتَ خَيْرٌ، بَعْدَ مَا سَمِعْتُ رَسُولِ اللهِ يَقُولُ: يُجَاءُ بِرَجُلٍ، فَيُطْرَحُ في النَّارِ، فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ). [خ¦7098]
          وفيه: أَبُو بَكْرَةَ قَالَ: (لَقَدْ نَفَعَنِي اللهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ النَّبيَّ صلعم أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا(8) أَمْرَهُمُ امْرَأَةً). [خ¦7099]
          وفيه: أَبُو مَرْيَم: لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إلى الْبَصْرَةِ بَعَثَ عَلِيٌّ إلى عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ وَحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ، فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ، فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ، فَكَانَ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ في أَعْلَاهُ، وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنَ الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِما، فَسَمِعْتُ عَمَّارًا، يَقُولُ: إِنَّ عَائِشَةَ، قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاللهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ ╡ ابْتَلاكُمْ؛ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ. [خ¦7100]
          وَقَالَ مرةً: وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ، يعني عائشة.
          وفيه: أَبُو وَائِلٍ: دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حِيْنَ بَعَثَهُ عَلِيٌّ ☺ إلى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ، فَقَالَا: مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْنَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الأمْرِ، وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً، ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ. [خ¦7102] [خ¦7103] [خ¦7104]
          وروي أيضًا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوسِرًا: يَا غُلامُ، هَاتِ حُلَّتَيْنِ، فَأَعْطِ إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالأخْرَى(9) عَمَّارًا، وَقَالَ: رُوحَا فِيهِا(10) إِلَى الْجُمُعَةِ. [خ¦7105] [خ¦7106] [خ¦7107]
          قال المؤلِّف: حديث حذيفة وأبي موسى مِن أعلام النُّبوَّة لأنَّ فيهما الإخبار عمَّا يكون مِن الفتن والغيب، وذلك لا يُعْلَم إلا بوحي مِن الله ╡.
          وقال الخطَّابي: إنَّما كان يسأل حذيفة عن الشرِّ ليعرف موضعَه فيتوقَّاه، وذلك أنَّ الجاهل بالشرِّ أسرع إليه وأشدُّ وقوعًا فيه، / ويروى(11) عن بعض السَّلف أنَّه قيل له: إن فلانًا لا يعرف الشَّرَّ. قال: ذاك أجدر أن يقع فيه، ولهذا صار عامَّة ما يروى مِن أحاديث الفتن وأكثر ما يذكر مِن أحوال المنافقين ونعوتِهم منسوبة إليه ومأخوذة عنه.
          وقال غيرُه: وإنَّما نَكَبَ(12) حذيفة حين سألَه عُمر عن الفتنة فجاوبِه عن فتنة الرَّجل في أهلِه ومالِه وولدِه وجارِه(13) ولم يجاوبْه عن الفتنة الكبرى الَّتي تموج كموج البحر لئلا يغمَّه ويشغل بالَه، أَلَا ترى قوله لعُمر: (لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ(14) بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا) ولم يقل له أنت الباب، وهو يعلم أنَّ الباب عمر، فإنَّما أراد حذيفة ألَّا يواجهَه بما يشقُّ عليه ويهمَّه، وعرض له بما فهم عنه عمر أنَّه هو الباب ولم يصرِّح له بذلك، وهذا مِن حسن أدب حذيفة ☺.
          قال المهلَّب: فإن قال قائل: فمِن أين علم عُمر ☺ أنَّ الباب إذا كُسِر لم يُغلَق أبدًا؟ فالجواب أنَّه استدلَّ عُمر على ذلك لأنَّ الكسر لا يكون إلا غلبةً، والغلبة لا تكون إلَّا في الفتنة، وقد علم عُمر وغيرُه مِن النَّبيِّ صلعم أنّه سأل ربَّه ألَّا يجعل بأس أمَّتِه بينَهم فمُنعَها، فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة، وروى مَعْمر عن أيُّوب عن أبي قِلَابة عن أبي الأشعث الصَّنعاني عن أبي أسماء الرَّحَبي عن شَدَّاد بن أوس عن النَّبيِّ صلعم قال: ((إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)) وفيه أنَّ الصَّحابة كان يأخذ بعضُهم العلم عن بعض(15)، ويصدِّق بعضُهم بعضًا، وكلُّهم عدل(16) رِضًى، وهم خير أمَّةٍ أُخرِجت للنَّاس.
          وفي حديث أبي موسى البُشرى بالجنَّة لأبي بكر وعُمر وعثمان ♥، إلَّا أنَّه قال في عثمان (مَعَ بَلَاءٍ يُصِيْبُهُ) وكان ذلك البلاء أنَّه قُتل مظلومًا شهيدًا. فإن قيل: فكيف خَصَّ عثمان بذكر البلاء وقد أصاب عُمرَ مثلَه لأنَّه طعنه أبو لؤلؤة فمات مِن طعنتِه شهيدًا كما مات عثمان شهيدًا؟.
          فالجواب أنَّ عُمر ☺ وإن كان مات مِن الطَّعنة شهيدًا، فإنَّه لم يُمتَحن بمثل محنة عثمان ☺ مِن تسلُّط طائفة باغية متغلِّبة عليه، ومطالبتِهم له أن ينخلع مِن الإمامة، وهجومِهم عليه في دارِه وهتكِهم سترَه ونسبتِهم إليه الجور والظلُّم، وهو بريء عند الله تعالى مِن كلِّ سوء، بعد أن مُنع الماءَ مع أشياء كثيرة يطول إحصاؤُها، وعُمر ☺ لم يلق مثل هذا، ولا تسوَّر عليه أحد دارَه ولا هتك سترَه ولا قتلَه مَن شهد شهادة التَّوحيد فيحاجَّه بها عند الله تعالى يوم القيامة؛ ولذلك حمِد الله عُمر على ذلك، فكان الَّذي أصاب عثمان ☺ مِن البلاء غير قتلِه بلاء شديدًا لم يُصَب عُمر مثلَه.
          قال المهلَّب: وأمَّا قول أبي وائل: (قِيْلَ لِأُسَامَةَ: أَلَا تُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ) يعني عثمان بن عفان ☺ ليكلِّمه في شأن الوليد لأنَّه ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمرُه، وكان أخا عثمان لأمِّه، وكان عثمان يستعملُه على الأعمال، فقيل لأسامة: ألا تكلِّمه في أمرِه؟ لأنَّه كان مِن خاصَّة عثمان، وممَّن يخفُّ عليه، فقال: قد كلَّمتُه فيما بيني وبينَه، وما دون أن أفتح بابًا أكون أوَّل مَن يفتحُه، يريد لا أكون أوُّل مَن يفتح باب الإنكار على الأئمَّة علانيةً فيكون بابًا مِن القيام على أئمَّة المسلمين فتفترق الكلمة وتتشتَّت الجماعة، كما كان بعد ذلك مِن تفرُّق الكلمة بمواجهة عثمان بالنَّكير، ثم عرَّفهم أنَّه لا يداهن أميرًا أبدًا بل(17) ينصح له في السرِّ جهدَه بعدما سمع النَّبيَّ صلعم يقول في الرَّجل الَّذي كان في النَّار كالحمار يدور برحاه، مِن أجل أنَّه كان يأمر بالمعروف ولا يفعلُه وينهى عن الشرِّ ويفعلُه يعرِّفُهم أنَّ هذا الحديث جعلَه ألَّا يداهن أحدًا، يتبرَّأ إليهم ممَّا ظنُّوا به مِن سكوتِه عن عثمان في أخيه.
          فإن قال قائل: فإنَّ الإنكار على الأمراء في العلانية مِن السنَّة لما روى سفيان عن علقمة بن مَرْثد عن طارق بن شهاب أَنَّ رجلًا سأل النَّبيَّ صلعم: أيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال: ((كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)).
          قال الطَّبري: قد اختلف السَّلف قبلنا في تأويل هذا الحديث فقال بعضُهم: إنَّما عنى النَّبيُّ صلعم بقولِه: ((كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)) إذا أمن على نفسِه القتل أو أن يلحقَه مِن البلاء ما لا قِبَلَ له به، هذا مذهب أسامة بن زيد، ورُوي(18) ذلك عن ابن مسعود وابن عبَّاس(19) وحذيفة، وروي عن مُطَرِّف بن الشِّخِّير أنَّه قال: والله لو(20) لم يكن لي دين حتَّى أقوم إلى رجل معَه ألف سيف فأنبذ إليه كلمة فيقتلَني إنَّ دِيني إذًا لضيِّق.
          وقال آخرون: الواجبُ على مَن / رأى منكرًا مِن ذي سلطان أن ينكرَه علانيةً وكيف أمكنَه، روي ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب وأُبَيِّ بن كعب، واحتجُّوا بقولِه صلعم: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمَانِ)) وبقولِه صلعم: ((إِذَا هَابَتْ أُمَّتِي أَنْ تَقُولَ لِلظَّالِم: يَا ظَالِمُ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ)).
          وقال آخرون: مَن رأى مِن سلطانِه منكرًا فالواجب عليه أن ينكرَه بقلبِه دون لسانِه، واحتجُّوا بحديث أمِّ سلمة عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((تُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ(21) أُمَرَاءُ بَعْدِي، تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا، مَا صَلُّوا)).
          قال الطَّبري: والصَّواب أنَّ الواجب(22) على كلِّ مَن رأى منكرًا أن ينكرَه إذا لم يَخَفْ على نفسِه عقوبة لا قِبَلَ له بها لورود الأخبار عن النَّبيِّ صلعم بالسَّمع والطَّاعة للأئمَّة، وقولِه ◙: ((لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ)).
          فإن قال قائل في حديث أسامة: فكيف صار الَّذين كان يأمرُهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر معه في النَّار وهو لهم بالمعروف آمر، وعن المنكر(23) ناهي(24)؟ قيل: لم يكونوا أهل طاعة، وإنَّما كانوا أهل معصية. وأمَّا حديث أبي بكرة فإنَّ في ظاهرِه توهية لرأي عائشة في الخروج.
          قال المهلَّب: وليس كذلك لأنَّ الأمر بالمعروف(25) مِن مذهب أبي بَكْرة أنَّه كان على رأي عائشة ♦ وعلى الخروج معها، ولم يكن خروجُها على نيَّة القتال، وإنَّما قيل لها: اُخْرُجِي لِتُصْلِحي بين النَّاس فإنَّك أمُّهم ولم يعقُّوك بقتال. فخرجت لذلك، وكان نيَّة بعض أصحابها إن ثبت لهم البغي أن يقاتلوا الَّتي تبغي، وكان منهم أبو بَكْرة ولم يرجع عن هذا الرَّأي أصلًا وإنَّما تشاءَم بقول الرَّسول صلعم في تمليك فارس امرأة أنَّهم يُغلَبون، لأنَّ الفلاح في اللُّغة البقاء؛ لا أنَّ(26) أبا بكرة وهَّن رأي عائشة، ولا في الإسلام أحدٌ يقولُه إلا الشِّيعة، فلم يُرِدْ أبو بكرة بكلامِه إلا أنَّهم يغلبون إن قوتلوا، وليس الغلبة بدلالة على أنَّهم على باطل لأنَّ أهل الحق قد يُغلبون وتكون لهم العاقبة كما وعد الله المتَّقين، وذلك عِيَان في أصحاب النَّبيِّ صلعم يوم حُنين وأُحد، وجعل الله لهم العاقبة، كما جعلَها لمن غضب لعثمان وأنف مِن قتلِه وطلب دمِه، وليس في الإسلام أحد يقول: إنَّ عائشة دعت إلى أمير معها، ولا عارضت عليًا رضي الله عنهم أجمعين في الخلافة، ولا نازعتْه لأخذ الإمارة، وإنَّما أنكرت عليه منعَه مِن قتلة عثمان، وتركِهم دون أن يأخذ منهم حدود الله ودون أن يقتصَّ لعثمان منهم، لا غير ذلك، فهم الَّذين خشوها وخشوا على أنفسِهم فورَّشوا ودسُّوا في جمع عائشة مَن يقول لهم: إن عليًا يقاتلكم فخذوا حذركم وشُكُّوا سلاحكم وعبِّئوا حربكم، وقالوا لعلي: إنَّهم يريدون أن يخلعوك(27) ويقاتلوك على الإمارة، ثم استشهدوا بما يرونه مِن أخذ أصحاب الجمل بالحزم وتعبئتِهم الصُّفوف وحمل(28) السِّلاح ثم يقولون له: هل يفعلون ذلك إلا لقتالك؟! حتَّى حرَّكوه، وكانوا أوَّل مَن رمى فيهم بالسِّهام وضربوا بالسُّيوف والرِّماح حتَّى اشتبك القتال ووقع ما راموه، وكان في ذلك خلاصُهم مما خشوه مِن اجتماع الفريقين على الاستقادة لعثمان منهم، هذا أحسن ما قيل في ذلك.
          وأمَّا حديث أبي موسى وأبي مسعود حين دخلا على عمَّار، فإنَّ عمارًا بعثَه عليٌّ إلى الكوفة ليستنفرَهم، فجرى بينَهم ما جرى مِن تقبيح رأي عمَّار وإسراعِه في الفتنة بالخروج وكشف الوجه وقد علم نهي النَّبيِّ صلعم عن حمل السِّلاح على المسلمين، ثم توبيخ عمَّار لأبي موسى وأبي مسعود على قعودِهما عن ذلك، وكلُّ فريق منهم مجتهد له وجه في الصَّواب، وكان اجتماعُهم عند أبي مسعود بعد أن خطب عمَّار النَّاس على المنبر بالنَّفير، وكان أبو مسعود كثير المال جوادًا وكان ذلك يوم جمعة فكساهما حُلَّتَيْن ليشهدا بها الجمعة لأنَّ عمارًا كان في ثياب السَّفر وهيئة الحرب فكرِه أن يشهد الجمعة في تلك الثِّياب، وكرِه أن يكسوه بحضرة أبي موسى ولا يكسو أبا موسى لأنَّه كان كريمًا ♥.
          و(القُفُّ) ما ارتفع عن الأرض، عن صاحب «العين».


[1] في (ص): ((ذلك)).
[2] في (ص): ((مهيباً)).
[3] قوله: ((يوماً)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((يمين)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((فكشف عن ساقيه... فيه مجلس)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((مع)).
[7] في (ص): ((كلمته ما لم أفتح)).
[8] في (ص): ((ولي)).
[9] في (ص): ((فأعطى...وأعطى الآخر)).
[10] كذا في (ز) و (ص)، وفي المطبوع: ((فيهما)).
[11] في (ص): ((وروي)).
[12] في المطبوع: ((تنكب)).
[13] قوله: ((وولده وجاره)) ليس في (ص).
[14] في المطبوع: ((فإن)).
[15] في (ص): ((العلم بعضهم عن بعض)).
[16] في (ص): ((عدول)).
[17] قوله: ((بل)) ليس في (ص).
[18] في (ص): ((روي)).
[19] قوله: ((وابن عبَّاس)) ليس في (ص).
[20] قوله: ((لو)) ليس في (ص).
[21] في (ز): ((ستستعمل عليكم أمتي)) والمثبت من (ص).
[22] قوله: ((أن الواجب)) ليس في (ص).
[23] قوله: ((معه في النار...وعن المنكر)) ليس في (ص).
[24] كذا في (ز) و (ص): ((ناهي)) وهو صحيح لغة.
[25] في (ص): ((لأن المعروف)).
[26] صورتها في (ز) و (ص): ((لأنَّ)) وهو خطأ والصواب المثبت.
[27] في (ص): ((يمنعوك)).
[28] في (ص): ((وشك)).