شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم

          ░9▒ بابٌ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ(1)، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجأً أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ). [خ¦7081]
          قال الطَّبري: إن قال قائل: ما معنى هذا الحديث، وهل المراد به كل فتنة بين المسلمين أو بعض الفتن دون البعض؟ فإن قلت: المعنى به كلُّ فتنةٍ، فما أنت قائل في الفتن الَّتي مضت، وقد علمت أنَّه نهض فيها مِن خيار المسلمين خلق كثير، وإن قلت المعنى به البعض، فأيَّتها المعنيَّة به، وما الدَّليل على ذلك؟
          قيل: قد اختلف السَّلف في ذلك، فقال بعضُهم: المراد به جميع الفتن، وغير جائز للمسلم النُّهوض في شيء منها، قالوا: وعليه أن يستسلم للقتل إن أُرِيدت نفسُه ولا يدفع عنها، والفتنةُ الاختلافُ الَّذي يكون بين أهل الإسلام ولا إمام لهم مجتمع على الرضا بإمامتِه لما اسْتُنْكِرَ(2) مِن سيرتِه في رعيَّتِه(3)، فافترقت رعيَّتُه عليه حتَّى صار افتراقُهم إلى القتال بأن رضيت منهم فرقة إمامًا غيرَه، وأقامت فرقة على الرِّضا به، قالوا: وإذا كان كلُّ واحد مِن هذين المعنيين فهي الَّتي أمر النَّبيُّ صلعم بكسر السُّيوف فيها ولزوم البيوت وهي الَّتي قال ◙: ((القَاعِدُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ)).
          وممَّن قعد في الفتنة حذيفة ومحمَّد بن سلمة وأبو ذر وعِمران بن حُصين / وأبو موسى الأشعري وأسامة بن زيد وأُهْبان بن صَيفي وسعد بن أبي وقاص وابن عُمر وأبو بَكْرة، ومِن التَّابعين شُريح والنَّخَعي. وحجَّتُهم مِن طريق النَّظر أنَّ كل فريق مِن المقتتلين في الفتنة فإنَّه يقاتل على تأويل، وإن كان في الحقيقة خطأ فهو عند نفسِه فيه محقٌّ وغير جائز لأحدٍ قتلُه، وسبيلُه سبيل حاكم مِن المسلمين يقضي بقضاءٍ ممَّا اختلف فيه العلماء على ما يراه صوابًا، فغير جائز لغيرِه مِن الحكَّام نقضُه إذا لم يخالف بقضائِه ذلك كتابًا ولا سُنَّةً ولا جماعة، فكذلك المقتتلون في الفتنة كلُّ حزب منهم عند نفسِه محقٌّ دون غيرِه بما يدَّعون مِن التَّأويل، وغير جائز لأحد قتالُهم، وإن هم قصدوا لقتلِه فغير جائز دفعُهم بضرب أو جرح، لأنَّ ذلك إنَّما يستحقُّه مَن قاتل وهو متعمِّد الإثم في قتالِه، والواجب على النَّاس إذا اقتتل حزبان مِن المسلمين بهذه الصِّفة ترك معونة(4) أحدِهما على الآخر وعليهم لزوم البيوت(5) كما أمر النَّبيُّ صلعم أبا ذرٍّ ومحمَّد بن سلمة وعبد الله بن عُمَر، وما عمل به مَن تقدَّم ذكرُهم مِن الصَّحابة.
          وقال آخرون: إذا كانت فتنة بين المسلمين فالواجب على المسلمين لزوم البيوت وترك معونة أحد الحزبين، ولكن إن دُخِلَ على(6) بعض مَن قد اعتزل الفريقين منزلُه، فأتى مَن يريد نفسَه فعليه دفعُه عن نفسِه وإن أتى الدَّفع على نفسِه، رُوي ذلك عن عِمْرَان بن حُصين وابن عُمر وعَبيدة السَّلْماني، واحتجُّوا بعلَّة الَّذين تقدَّم قولُهم غير أنَّهم اعتلُّوا في إباحة الدَّفع عن أنفسِهم بالأخبار الواردة عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((مَنْ أُرِيْدَتْ نَفْسُهُ وَمَالُهُ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيْدٌ)).
          فالواجب على كل مَن أُريدت نفسُه ومالُه ظلمًا دفع ذلك ما وجد إليه السبيل، متأوِّلًا كان المريد أو معتمِّدًا للظُّلم لأنَّ ذلك عندهم ظلم، وعلى كل أحد دفع الظُّلم عن نفسِه بما قدر عليه.
          وقال آخرون: كلُّ فرقتين اقتتلتا(7) فغير خارج أحدُهما مِن أحد وجهين؛ مِن أن تكون الفرقتان مخطئتين في قتال(8) بعضِهم بعضًا، وذلك كقتال أهل العصبيَّة(9) والمقتتلين على النَّهْب وأشباه ذلك ممَّا لا شبهة في أنَّ اقتتالهم حرام وأنَّ على المسلمين الأخذ على أيديهم وعقوبتُهم ممَّا(10) يكون نَكالًا لهم، أو تكون إحداهما مخطئة والأخرى مصيبة، فالواجب على المسلمين الأخذ على أيدي المخطئة ومعونة المصيبة لأنَّ النَّبيَّ صلعم قد أمر بالأخذ على يدي الظَّلمة(11) بقوله: ((لَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِم حتَّى تَأْطِرُوهُ عَلَى الحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيُسَلِطَنَّ اللهُ عَلَيكُمْ شِرَارَكُمْ، فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ)) فإذا كان كما قلنا وكان غير جائز أن تكون فرقتان تقاتل كلُّ واحدة منهما صاحبتَها أو يسفك بعضُها دماء بعض كلاهما مصيبة لأنَّ ذلك لو جاز جاز أن يكون الشَّيء الواحد حرامًا حلالًا في حالة واحدة، وإذا كان ذلك(12) فالواجب على المسلمين معونة المحقَّة مِن الفئتين، وقتال المخطئة حتَّى ترجع إلى حكم الله، فلا وجه لكسر السُّيوف والاختفاء في البيوت عند هَيْج الفتنة، رُوي ذلك عن عليِّ بن أبي طالب وعمَّار بن ياسر وعائشة وطلحة، ورواية عن ابن عُمر. روى الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عُمَر عن أبيه أنَّه قال: ما وجدت في نفسي مِن شيء ما وجدت أنِّي لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله.
          وروى سفيان عن يحيى بن هانئ أنَّه قال لعبد الله بن عَمْرو: عليٌّ كان أولى أو معاوية؟ قال: عليٌّ. قال(13): فما أخرجك؟ قال: إنِّي لم أضرب بسيفٍ ولم أطعن برمح، ولكنَّ رسول الله صلعم قال: ((أَطِعْ أَبَاكَ فَأَطَعْتُهُ)). وقال إبراهيم بن سعد: قُتل أُوَيس القرني مع عليِّ في الرَّجَّالة. وقيل لإبراهيم النَّخَعِي: مَن كان أفضل علقمة أو الأسود؟ فقال: علقمة لأنَّه شهد صفِّين وخضب سيفَه(14) فيها.
          وقال ابن إسحاق: شهد(15) مع عليٍّ عَبيدة السَّلْماني وعلقمة وأبو وائل وعَمرو بن شُرَحبيل. وقال ابن إسحاق: خرج مع ابن الأشعث في الجماجم ثلاثة آلاف مِن التَّابعين ليس في الأرض مثلهم: أبو البَخْتَري والشَّعْبي وسعيد بن جُبير وعبد الرَّحمن بن أبي ليلى والحسن البصري.
          وقال آخرون: كلُّ قتال وقع بين المسلمين ولا إمام لجماعتِهم يأخذ للمظلوم مِن الظَّالم فذلك القتال هو الفتنة الَّتي أمر رسول الله صلعم بالاختفاء في البيوت فيها وكسر السُّيوف، كان الفريقان مخطئين أو كان أحدُهما مخطئًا والآخر مصيبًا، رُوي ذلك عن الأوزاعي قال: / ما كانت منذ بعث الله تعالى نبيَّه صلعم إلى اليوم طائفتان مِن المؤمنين اقتتلتا إلا كان قتالُهم خطأ ومعصية، فإن كانتا في سواد العامَّة، فإمام الجماعة المصلح بينَهم يأخذ مِن الباغية الِقصاص في القتل والجراح كما كان بين تينك الطَّائفتين اللَّتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله وإلى الولاة بعدَه(16) وإن كان قتالُهم وليس للنَّاس إمام يجمعُهم فهي الفتنة الَّتي النَّجاة منها الأخذ بعهد النَّبيِّ صلعم أن يعتزل تلك الفرق كلَّها ولو أن يعضَّ بأصل الشَّجرة حتَّى يدركَه الموت، وإن كانت خارجة فشهدت على أختِها بالضَّلالة في إيمانِها وبالكفر لم تسمَّ فئة(17) باغية، وقد برئت مِن ولايتِها قبل خروجِها عليها، فكفى بالخروج براءة وبرجوع فَلِّهم إذا هُزِموا إلى مقرِّهم مروقًا.
          قال الطَّبري: وأنا قائل بالصَّواب في ذلك ومبيِّن معنى الفتنة الَّتي القاعد فيها خير مِن القائم وأمرِه(18) صلعم بكسر السُّيوف ولزوم البيوت والهرب في الجبال، والخبر المعارض لهما وهو أمرُه صلعم بقتال النَّاكثين والقاسطين والمارقين والأخذ على يد السُّفهاء والظَّالمين، إذ غير جائز التَّعارض في أخبارِه صلعم؛ إذ كلُّ ما قال حقٌّ وصدق.
          فنقول: الفتنة في كلام العرب الابتلاء والاختبار، وقد(19) يكون ذلك بالشِّدِّة والرَّخاء والطَّاعة والمعصية، وكان حقًّا(20) على المسلمين إقامة الحقِّ ونصرة أهلِه، وإنكار المنكر والأخذ على أيدي أهلِه، كما وصفَهم الله تعالى بقولِه: {الَّذينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنْكَرِ(21)}[الحج:41]كان معلومًا أنَّ مَن أعان في الفتنة فريق الحقِّ على فريق الباطل فهو مصيب أمر الله تعالى، ومَن أنكر ما قلناه قيل له: أرأيت المفتئتين الملتمسين ولاية أمر الأمَّة في حالِ لا إمام لهم يقيم عليهم الحقَّ هل يخلو(22) عندك مِن أحد أمور ثلاثة(23): إمَّا أن يكون كلاهما محقَّين أو كلاهما مبطلين أو أحدُهما محقًّا والآخر مبطلًا؟ فإن قال: نعم. قيل له: أوليس الفريقان إذا كانوا مبطلين حُقَّ على المسلمين الأخذ على أيديهما إن قدروا على ذلك، وإن لم تكن لهم طاقة فكراهة أمرِهما والقعود عنهما وترك معونة أحدِهما على الآخر فقد أوجب معونة الظَّالم على ظلمِه، وذلك خلاف حكم الله تعالى. وإن قال: بل(24) الواجب عليهم ترك الفريقين يقتتلون واعتزالُهما، أباح للمسلمين ترك إنكار المنكر وهم على ذلك قادرون، وسُئل عن رجل غصب امرأة نفسَها للفجور بها على أَعْيَن النَّاس وهم على منعِه قادرون، فهل(25) يجوز لهم تركُه؟ فإن أجاز ذلك لم يمكن خصمُه الإبانة عن خطأ قولِه بأكثر مِن ذلك، فإن أوجب منعَه والأخذ على يدِه، قيل له: فما الفرق بينَه وبين مَن رآه يريد قتل رجل ظلمًا وعدوانًا، وما الَّذي أوجب عليهم منع ذلك ظاهرًا وأباح لهم ترك مَن يريد قتل النَّفس الَّتي حرَّمها الله تعالى؟ ويقال له: أرأيت إن كان أحد الفريقين محقًّا والآخر مبطلًا أيجب على المسلمين معونة المحقِّ على المبطل؟ فإن قال: لا؛ أوجب ترك السَّاعي(26) في الأرض بالفساد، وهذا خلاف قولِه تعالى: {إنَّما جَزَاء الَّذينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا(27)} الآية[المائدة:33]. فإن قال: تجب معونة المحقِّ على المبطل أوجب قتال الفرقة الباغية.
          فأمَّا(28) الحالة الثالثة فإنَّها حالة ممتنعة(29) في العقل وجودُها، وذلك حال حرب فريقين مِن المسلمين يقتتلان وهما جميعًا محقَّان في ذلك، ولو جاز أن يكون كلُّ واحد منهما مصيب حقيقة حكم الله تعالى في ذلك لجاز أن يكون الشَّيء الواحد بحكم الله حلالًا حرامًا في حالة واحدة وشخص واحد، وهذا ما لا يجوز أن يوصف به ╡.
          فإن قيل: فما تنكر أن يكون الفريقان المقتتلان مصيبين في قتال كلِّ واحد منهما صاحبَه حقيقة حكم الله تعالى إذا كان قتالُهما في جهة التَّأويل لا مِن جهة الخلاف للنصِّ الَّذي لا يحتمل التأويل، فقد علمت قول مَن قال باجتهاد الرأي فيما لا نصَّ فيه مِن أنَّ كلَّ مجتهد مصيب، وأنَّ حكم الله في الحادثة على كلِّ مجتهد ما أدَّاهُ إليه اجتهادُه، وأنَّه لا خطأ في شيء مِن ذلك واحتجاجُه على(30) صحَّة ذلك بما يكون مِن الصَّحابة / رضوان الله عليهم، فيما لا نصَّ فيه لله وللرَّسول مِن الاختلاف بينَهم، ثم لم يُظهِر واحد منهم لصاحبِه البراء(31) ولا الخروج مِن ولايتِه، قال: فكذلك الفريقان المقتتلان إذا كانا كلاهما طالبي الحق عند أنفسِهما ورأى كلُّ واحد منهما أنَّه محقٌّ كالمختلفين مِن أصحاب رسول الله صلعم.
          قيل له: أمَّا قول مَن قال: كلُّ مجتهد وإن كان غير(32) مصيب في خطئه حكم الله الَّذي طلبَه فأضلَّه فقد أخطأ، وذلك كالملتمس عين القبلة للصَّلاة إليها في يوم دَخَنٍ في فلاة مِن الأرض بالدَّلائل غير موجب له التماسُه إيَّاها وقد أخطأها أن يكون مصيبًا في طلب جهتِها، فكذلك المقتتلان على التَّأويل الَّذي يعذر فيه المخطئ إذا أخطأ أحدُهما حكم(33) الله في قتالِه الفريق المصيب حكم الله، وإن(34) عُذِر بالخطأ الَّذي وُضِع عنه الوزر فيه إذا كان سبيلُه فيما كُلِّف فيه(35) سبيل المحنة والابتلاء، إذا لم يوقفوا على عينه بالنَّص الَّذي لا يحتمل التَّأويل.
          وأمَّا استشهاد مَن قال: كلُّ مجتهد مصيب باختلاف أصحاب النَّبيِّ صلعم فيما لا نصَّ فيه بعينِه فإنَّ أصحاب النَّبيِّ صلعم لم ينكروا فيما قالوا فيه مِن الاجتهاد والاستنباط أن يكون منهم(36) مصيب ومخطئ، فلا حجَّة لمحتجٍّ باختلافِهم، فإذا بطل الوجه الثَّالث وهو أن يكونا(37) معًا محقَّين ثبت أنَّ قولَه صلعم: (سَتَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ) غيرُ معنيِّ به القتالُ الَّذي هو معونة المسلمين للمحقِّ والقتال الَّذي يكون مِن المسلمين لأهل السَّفه والفسق للأخذ على أيديهم ومنعهم مِن السَّعي في الأرض بالفساد.
          فإن قيل: فأي حالة هي الَّتي وصف النَّبيُّ صلعم مِن الفتنة أنَّ القاعد فيها خير مِن القائم؟ قيل: هذه حالة لها ثلاث منازل:
          أحدُها: أن يكون الفريقان المقتتلان مبطلين، وسائر المسلمين مقهورين بينهما لا طاقة لمَن أراد الأخذ على أيديهما على النُّهوض في ذلك، فإن هو نهض عرَّض نفسَه للهلاك ولم يرج إصلاحًا بينَهما فهذه حالة هو فيها معذور بالتَّخلُّف، والسَّلامة له في الهرب وكسر السُّيوف، وهذه الَّتي قال ◙: (القَاعِدُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ) يعني القاعد عن هذه الفتنة خير مِن القائم فيها للنُّهوض إليها معينٌ(38) أهلَها لأنَّه خير مِن القائم بذكر الله والعمل بطاعتِه.
          والحالة الثانية(39): أن يكون أحد الفريقين مخطئًا والآخر مصيبًا، وأمرُهما مشكل على كثير مِن النَّاس لا يعرفون المحقَّ فيها مِن المبطل، فمَن أشكل عليه أمرُهما فواجب عليه اعتزال الفريقين ولزوم المنازل حتَّى يتَّضح له الحقُّ ويتبيَّن المحقُّ منهما وتنكشف عنه الشُّبهة فيلزمُه مِن معونة أهل الحقِّ ما لزم أهل البصائر.
          وأمَّا المنزلة الثَّالثة: فأن يكون مخرج الكلام مِن رسول الله صلعم في ذلك كان في خاصٍّ مِن النَّاس على ما رُوي عن عمَّار بن ياسر(40) أنه قال لأبي موسى حين روى عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((إِذَا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ فَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالحِجَارَةِ)) الحديث. فقال له عمَّار: أنشدك الله يا أبا موسى قال هذا رسول الله صلعم لك أنت خاصَّةً؟ قال: نعم. ولو كان الواجب في كلِّ اختلاف يكون بين الفريقين مِن المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل وكسر السُّيوف لما أُقيم لله تعالى حقٌّ ولا أُبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلًا إلى استحلال كلِّ ما حرَّم الله عليهم مِن أموال المسلمين ونسائِهم، وسفك دمائِهم بأن يتحزَّبوا عليهم ويكفَّ المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه فتنة قد نُهينا عن القتال فيها، وأُمرنا بكفِّ الأيدي والهرب منها، وذلك مخالفة لقوله صلعم: ((خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُم)) ولقولِه: ((مَثَلُ القَائِمِ والمُنْتَهِكِ والمُدَّهِنِ فِي حُدُودِ اللهِ مَثَلُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ اصْطَحَبُوا فِي سَفِينةٍ، فَقَالَ(41) أَحَدُهُم: نَحْفِرُ لِنَأْخُذَ المَاءَ، وَقَالَ الآخَرُ: دَعْهُ فَإِنَّما يَحْفِرُ مَكَانَهُ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدِهِ نَجَا وَنَجَوا جَمِيعًا)) الحديث.
          فإن قال قائل: فإنَّك قد ذكرت أنَّه لا فتنة تخلو مِن الأسباب الثَّلاثة، ثم أوجب(42) في جميعِها على أهل البصائر بالحقِّ النهوض مع أهلِه على أهل الباطل لقمعِه، وقد علمت أنَّه لا فتنة كانت ولا تكون منذ بعث / الله نبيَّه ◙ أفضل أهلًا ولا أقوم بالحقِّ ولا أطلب له مِن قوم نهضوا فيها بعد مقتل عثمان(43) فإنَّهم كانوا أهل السَّابقة والهجرة وخيار الأمة، ولم تكن فتنة يرجى بالنُّهوض لمعونة أحد فريقيها على الآخر ما كان يرجى فيها لو كان النُّهوض في فتن المسلمين جائزًا، وقد علمت مَن تثبَّط(44) عن النُّهوض فيها ونهى عن السَّعي(45) إليها وأمر(46) بالجلوس عنها مِن جِلَّة الصَّحابة كسعد وأسامة ومحمَّد بن مسلمة وأبي مسعود الأنصاري وابن عُمر وأبي موسى وغيرِهم يكثر إحصاؤُهم.
          قيل له: إنَّ سبيل كلِّ ما احتيج مِن أمر الدِّين إلى الاستخراج بالقياس والاستنباط بالعقول والأفهام سبيل ما كان مِن الاختلاف بين الَّذين نهضوا في الفتنة الَّتي قعد عنها مَن ذكرت مِن القاعدين فيها، ولذلك عذر أهل العلم مَن قعد عنها ومَن نهض فيها مِن أهل الدين، ولولا ذلك عظمت المصيبة وجسمت البليَّة، ولكنَّ قعود مَن قعد عنها لمَّا كان بتأوَّل(47) ونهوض مَن نهض فيها بمثلِه رجا العالمون بالله للمصيب منهم الثَّواب الجزيل وعذروا المخطئ في خطئِه؛ إذ كان خطؤُه بالتَّأويل، لا بالخلاف للنصِّ المحكم الَّذي لا يحتاج للتَّأويل، ولا شكَّ أنَّ النَّاهضين في الفتنة الَّتي قعد عنها سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة كانوا أفضل وأعلم بالله ممَّن قعد عنها، وذلك أنَّ النَّاهضين فيها كان منهم مَن يُقِرُّ له جميعُ أهل ذلك الزَّمان بالفضل والعلم، ومنهم مَن لا يدفعُه جميعُهم عن أنَّه إن لم يكن أفضل منه وأعلم أنَّه ليس بدونِه.
          وإذا كان الأمر كذلك لم يكن المحتجُّ إذا أغفل سبيل الصَّواب لتأويلٍ تأوَّله وإن كان خطأ حجةً على مَن خالفَه في تأويلِه. فإن قال: فإنَّ جلوس مَن جلس ممَّن ذكرنا لم يكن تأويلًا ولكنَّه كان نصًّا لا يحتمل التَّأويل لقوله: (القَاعِدُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ) قيل(48): لا أحد روى عن النَّبيِّ صلعم في الفتنة الَّتي قعد عنها أنَّه صلعم نهاه عن النُّهوض فيها بعينِها نصًّا، وإنَّما قال صلعم: (القَاعِدُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ) مِن غير نصٍّ على فتنة بعينِها أنَّها هي تلك الفتنة، ومِن غير تسميتِهم لها(49) باسم وتوقيت(50) لها بوقت.
          وقد روى أهل العراق عن عليٍّ وعبد الله: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم أَمَرَ عَلِيًّا بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالقَاسِطِينَ وَالمَارِقِينَ)) وعن أبي سعيد وغيرِه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((لَتُقَاتِلُنَّ عَلَى تَأْوِيْلِهِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيْلِهِ)) وروى أهل الشام عن النَّبيِّ صلعم في معاوية أنَّه الَّذي يقاتل على الحقِّ وأنَّه صلعم ذكر فتنة فمرَّ به عثمان، فقال: ((هَذَا وَأَصْحَابُهُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الحَقِّ)) وكلُّ راوٍ منهم لرواية يدَّعي أنَّها الحق، وأنَّ تأويله أولى، وإذا(51) كان الأمر كذلك عُلِمَ أنَّ القول في ذلك مِن غير وجه النَّصِّ _الَّذي لا يحتمل التَّأويل_ وأنَّ الاختلاف بينهم كان مِن جهة الاستنباط والاستخراج الَّذي(52) لا يوجد في مثلِه إجماع مِن الأمَّة على معنًى واحد، ولذلك قيل في قتلى الفريقين ما قيل(53) مِن رجاء الفريق الآخر الإصابة وأمن على فريق الشُّبهة.
          وكذلك ما حدَّثنا خلَّاد بن أسلم قال: حدَّثنا النَّضْر بن شُميل عن ابن عون(54) عن ابن سِيرين أنَّ عائشة سمعت صوتًا فقالت: مَن هذا أخالد بن الواشمة؟ قال: نعم. قالت: أنشدك الله إن سُألتَ عن شيء أَتصدقني؟ قال: نعم. قالت: ما فعل طلحة؟ قال: قُتل. قالت: ما فعل الزُّبير؟ قال: قُتل. قالت: إنَّا لله وإَّنا إليه راجعون. قال: قلت: بل نحن إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون على زيد وأصحاب زيد، والله لا يجمعهم الله وقد قتل بعضُهم بعضًا. قالت: أو لا تدري؟ وسعت رحمتُه كل شيء وهو على كلِّ شيء قدير. قال: فكانت أفضل مني.
          وحدَّثنا مجاهد بن موسى حدَّثنا يزيد حدَّثنا العوَّام بن حَوْشَب عن عَمْرو بن مرة عن أبي وائل قال: رَأَى عَمْرو بنُ شُرَحْبيل أبا ميسرة وكان مِن أفضل النَّاس عند الله، قال: رأيت كأني دخلت الجنَّة، فإذا قباب مضروبة فقلت: لمَن هذه؟ فقالوا: لذي الكَلَاع وحَوْشَب، وكانا ممَّن(55) قُتل مع معاوية. قلت: وأين(56) عمار وأصحابُه؟ فقال: أمامك. فقلت: وقد قتل بعضُهم بعضًا؟ قيل: إنَّهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة. قلت: فما فعل / أهل النَّهر؟ قال: لقوا برجاء(57).


[1] في (ص): ((استشرفته)).
[2] في (ص): ((يستنكر)).
[3] في (ص): ((سيرته ورعيته)).
[4] في (ص): ((معاونة)) في الموضعين.
[5] قوله: ((البيوت)) زيادة من (ص).
[6] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((اقتتلا)).
[8] في (ص): ((قتل)).
[9] في (ص): ((الغصب)).
[10] في (ص): ((بما)).
[11] في (ص): ((الظالم)).
[12] في (ص): ((كذلك)).
[13] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[14] في (ص): ((بسيفه)).
[15] في (ز): ((شهدت)) والمثبت من (ص).
[16] في (ص): ((بعدهم)).
[17] في (ص): ((فيه)).
[18] في (ص): ((وأمر)).
[19] في (ص): ((فقد)).
[20] في (ص): ((وكان جعله)).
[21] قوله: ((وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر)) ليس في (ص).
[22] في (ص): ((خلوا)).
[23] في (ص): ((ثلاث)).
[24] في (ص): ((قال قائل)).
[25] في (ص): ((هل)).
[26] في (ص): ((السعي)).
[27] قوله: ((ويسعون في الأرض فساداً)) ليس في (ص).
[28] في (ص): ((وأمَّا)).
[29] في المطبوع: ((ممتنع)).
[30] قوله: ((واحتجاجه على)) ليس في المطبوع.
[31] في (ص): ((البراءة)).
[32] في (ز): ((غيره)) والمثبت من (ص).
[33] في (ز): ((بحكم)) والمثبت من (ص).
[34] في (ز): ((فإن)) والمثبت من (ص).
[35] في (ز): ((منه)) والمثبت من (ص).
[36] في (ص): ((فيهم)).
[37] في (ص): ((يكون)).
[38] كذا ضبطها في (ز)،
[39] في (ز) و(ص) وهمًا: ((الثالثة)).
[40] في (ص): ((عن ابن عبَّاس)).
[41] في (ز): ((فقام)) والمثبت من (ص).
[42] في (ص): ((أوجبت)).
[43] قوله: ((عثمان)) ليس في (ص).
[44] في (ص): ((ثبت)).
[45] في (ص): ((المشي)).
[46] في (ص): ((فأمر)).
[47] في (ص): ((بتأويل)).
[48] زاد في (ص): ((أنه)).
[49] كذا في (ز) و (ص)، وفي المطبوع: ((من غير تسميته بها)).
[50] في (ص): ((وتوقيته)).
[51] في (ص): ((فإذا)).
[52] في (ص): ((الاستنباط والقياس والَّذي)).
[53] في (ص): ((الفريقين متأول)).
[54] قوله: ((عن ابن عون)) ليس في (ص).
[55] في (ص): ((من)).
[56] في (ص): ((فأين)).
[57] في (ز): ((برحاء)) وغير منقوطة في (ص).