شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه

          ░21▒ بابٌ إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلافِهِ.
          فيه: نَافِعٌ: (لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ على بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ نُبَايَعَ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ نَنْصِبُ(1) لَهُ الْقِتَالَ: وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلَا تَابَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ). [خ¦7111]
          وفيه: أَبُو(2) الْمِنْهَالِ: (لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّامِ، وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ حتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ في دَارِهِ جَالِسًا في ظِلِّ عُلِّيَّةٍ(3)، فَأَنْشَأَ أَبِي يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَرْزَةَ، أَلَا تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ؟ فَأَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنِّي أَحْتَسِبُ عِنْدَ اللهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي قَدْ(4) عَلِمْتُمْ مِنَ الْقِلَّةِ والذِّلَّةِ(5) وَالضَّلالَةِ، وَإِنَّ اللهَ / أَنْقَذَكُمْ بِالإِسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ صلعم حتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ، وَهَذِهِ الدُّنيا الَّتي أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ، إِنَّ ذَاكَ الَّذي بِالشَّامِ، وَاللهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلَّا على الدُّنيا، وَإِنْ ذَاكَ الَّذي بِمَكَّةَ وَاللهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلَّا على الدُّنيا، وَإِنَّ هَؤُلاءِ الَّذينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَاللهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلَّا على الدُّنيا). [خ¦7112]
          وفيه: حُذَيْفَةُ، قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ. [خ¦7113]
          وَقَالَ مرةً: إنَّما كَانَ النِّفَاقُ على عَهْدِ رسُول الله صلعم، وإِنَّمَّا الْيَوْمُ فَإنَّما هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإيمَانِ. [خ¦7114]
          قال المؤلِّف: معنى التَّرجمة إنَّما هو في خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ورجوعِهم عن بيعتِه وما قالوا له، وقالوا بغير حضرتِه خلاف(6) ما قالوا بحضرتِه، وذلك أنَّ ابن عمر بايع يزيد بن معاوية فقال عنده بالطَّاعة لخلافتِه، ثم خشي على بنيه وحشمِه النَّكث مع أهل المدينة حين نكثوا بيعة يزيد، فجمعَهم ووعظَهم وأخبرَهم أنَّ النَّكث أعظم الغدر.
          وأمَّا قول أبي برزة: ((إِنِّي أَحْتَسِبُ عِندَ اللهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ)) فوجْهُ موافقتِه التَّرجمة أنَّ هذا قول لم يقلْه عند مروان حين بايعَه بل بايع واتَّبع، ثم سخط ذلك لمَّا بعد عنه، وكأنَّه أراد منه أن يترك ما نُوزع فيه للآخرة ولا يقاتل عليه كما فعل عثمان فلم يقاتل مَن نازعَه، بل ترك ذلك لمَن قاتلَه عليه، وكما فعل الحسن بن علي حين ترك(7) القتال لمعاوية حين نازعَه أمر الخلافة فسخط أبو برزة مِن مروان تَمَسُّكَهُ بالخلافة والقتال عليها، فقد تبيَّن أنَّ قوله لأبي المِنْهَال وابنِه بخلاف ما قال لمروان حين بايع له، وأمَّا يمينُه أنَّ الَّذي بالشَّام إن يقاتل إلَّا على الدُّنيا فوجهُه أنَّه كان يريد أن يأخذ بسيرة عثمان والحسن ☻، وأمَّا يمينُه على الَّذي بمكَّة يعني ابن الزبير فإِنَّه لمَّا وثب بمكَّة مِن(8) بعد أن دخل فيما دخل فيه المسلمون جعله نكثًا منه وحرصًا على الدُّنيا، وهو في هذه أقوى رأيًا منه في الأولى، وكذلك القرَّاء بالبصرة لأنَّه كان ☼ لا يرى الفتنة في الإسلام أصلًا، فكان يرى أن يترك صاحب الأمر(9) حقَّه لمَن نازعَه فيه لأنَّه مأجور في ذلك وممدوح بالإيثار على نفسِه، وكان يريد مِن المقاتل له أن لا يقتحم النَّار في قيامِه وتفريقِه الجماعة وتشتيتِه الكلمة، ولا يكون سببًا لسفك الدِّماء واستباحة الحُرُم أخذًا بقولِه صلعم: ((إِذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ)) فلم ير القتال البتَّة.
          وأمَّا حديث حذيفة وقولِه: (إِنَّ المُنَافِقِينَ اليَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ صلعم) لأَنَّهم كانوا يُسرِّون قولَهم فلا يتعدَّى شرُّهم إلى غيرِهم، وأمَّا اليوم فإنَّهم يجهرون بالنفاق ويعلنون بالخروج على الجماعة ويورسون(10) بينَهم ويحزِّبونهم أحزابًا، فهم اليوم شرٌّ منهم حين لا يضرُّون بما يُسِرُّونَه.
          ووجْهُ موافقتِه للتَّرجمة أنَّ المنافقين بالجهر وإشهار السِّلاح على النَّاس هو القول بخلاف ما قالوه حين دخلوا في بيعة مَن بايعوه مِن الأئمَّة لأنَّه لا يجوز أن يتخلَّف عن بيعة مَن بايعَه الجماعة ساعةً مِن الدَّهر لأنَّها ساعة جاهليَّة، ولا جاهليَّة في الإسلام، وقد قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عِمْرَان:103]فالتَّفرُّق محرَّم في الإسلام وهو الخروج عن طاعة الأئمَّة. وأمَّا قول أبي بَرْزة واحتسابِه(11) سخطَه على أحياء قريش عند الله تعالى، فكأنَّه قال: اللَّهُمَّ إنِّي لا أرضى ما تصنع قريش مِن التَّقاتل على الخلافة، فاعلم ذلك مِن نيَّتي، وإنِّي أسخط فعلَهم واستباحتَهم للدِّماء والأموال، فأراد أن يحتسب ما يعتقدُه(12) مِن إنكار القتال في الإسلام عند الله أجرًا وذخرًا، فإنَّه لم يقدر مِن التَّغيير عليهم إلَّا بالقول والنِّيَّة الَّتي بها يأجرُ الله عبادَه.


[1] كذا في (ز) و (ص): ((نبايع رجلًا...ننصب)) بإضافة الفعل إلى جماعة المتكلمين، وفي مصورة السلطانية: ((يُبايعَ رجلٌ...يُنصَبَ)) بالبناء على المجهول.
[2] قوله: ((أبو)) ليس في (ص).
[3] زاد في المطبوع: ((لَهُ مِنْ قَصَبٍ، فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ)) وليس هو في النسخ التي اعتمدوا عليها في المطبوع.
[4] في (ص): ((الَّتي قد)).
[5] في (ص): ((القلة والذلة)).
[6] قوله: ((خلاف)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((تارك)).
[8] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((الحق)).
[10] كذا ضبطها في (ز) بالسين المهملة وطُمست في (ص) وفي المطبوع: ((يورثون)).
[11] في (ص): ((واحتسب أنه)).
[12] في (ص): ((مما يكرهه)).