شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا بقي في حثالة من الناس

          ░13▒ بابٌ إِذَا بَقِيَ في حُثَالَةٍ مِنَ النَّاس.
          فيه: حُذَيْفَةُ: (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، فقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ(1)، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ على رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ في بَنِي فُلانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَلَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الإسْلامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وأمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلانًا وَفُلانًا). [خ¦7086]
          قال المؤلِّف: هذا الحديث من أعلام النُّبوَّة لأنَّ فيه الإخبار عن فساد أديان النَّاس وقلَّة أمانتِهم(2) في آخر الزَّمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل كونِه إلَّا مِن طريق الوحي، وهذا كقولِه صلعم: ((بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيْبًا وَسَيَعُودُ غَرِيْبًا كَمَا بَدَأَ)) وروى ابن وهب عن يعقوب بن عبد الرحمن عن عمر مولى المطَّلب عن العلاء بن عبد الرَّحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم لعبد الله بن عَمْرو: ((كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللهِ إِذَا بَقِيْتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؟ قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: عَلَيكَ بِخَاصَّتِكَ، وَدَعْ عَنْكَ عَوَامَّهُمْ)) ومِن هذا الحديث ترجم البخاري ترجمة هذا الباب، والله أعلم، وأدخل معناه في حديث حذيفة ولم يذكر الحديث بنص التَّرجمة لأنَّه مِن رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ولم يخرج عن العلاء حديثًا في كتابِه.
          و(الحُثَالَةُ) سفلة النَّاس، وأصلُها في اللغة ما تساقط مِن قشور التَّمر والشَّعير وغيرِهما(3) وهي الحُفَالة والسخافة.
          وقولُه في حديث حذيفة: (فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ) قال الأصمعي وأبو عَمْرو، وغيرُهما: الجذر الأصل. قال الأصمعي: بفتح الجيم، وقال أبو عَمْرو: بكسر الجيم.
          وقال صاحب «لعين»: (الوَكْتُ) شبيه نكتة في العين، وعين موكوتة، والوكت سواد اللُّون. وقال أبو عُبيد: الوكت أثر الشَّيء اليسير منه. وقال الأصمعي: يقال للبُسر إذا بدا فيه / الإرطاب: بُسر موكت.
          و(المَجْلُ) أثر العمل في اليد(4) يعالج به الإنسان الشَّيء حتَّى تغلظ جلودُها، يقال منه: مَجِلت يدُه(5) ومَجَلت لغتان، وذكر الحربي عن ابن الأعرابي: المجَل: النَّفْطُ باليد ممتلئ ماءً، وقال أبو زيد: إذا كان بين الجلد واللحم ماء قيل: مَجِلَت يدُه تَمْجَل، ونَفِطت تَنْفَط نفطًا ونفيطًا.
          والمنتبر: المُتَنفِّط. قال الطوسي: انتبر الجرح إذا ورم، ويقال: سمعت نبرات مِن كلامه أي: ارتفاعات مِن صوتِه.
          قال أبو عبيد: وقولُه: (مَا أُبَالِيْ أَيُّكُمْ بَايَعْتُ) حملَه كثير مِن النَّاس على بيعة الخلافة، وهذا خطأ في التَّأويل، وكيف يكون على بيعة الخلافة وهو يقول: (لَئِنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيْهِ) فهو يبايع على الخلافة اليهوديَّ والنَّصرانِيَّ؟! ومع هذا أنَّه لم يكن يجوِّز أن يبايع كلَّ أحد فيجعلَه خليفة، وهو لا يرضى بأحد بعد عمر، فكيف يُتَأَوَّلُ هذا عليه مع مذهبِه فيه؟ إنَّما أراد مبايعة البيع والشِّراء؛ لأنَّه ذكر الأمانة وأنَّها قد ذهبت مِن النَّاس يقول: فليس أثقُ اليوم بأحد أئتمنُه على البيع والشِّراء إلَّا فلانًا وفلانًا لقلَّة الأمانة في النَّاس.
          وقولُه: (رَدَّه عَلَيَّ سَاعِيْهِ) يعني الوالي الَّذي عليه، يقول: ينصفني منه، وإن لم يكن له إسلام، وكلُّ مَن ولي على قوم فهو ساعٍ عليهم، وأكثر ما يقال هذا في ولاة الصَّدقة قال الشاعر:
سَعَـى عِقَـالًا فَلَـْم يَتْـرُك لَنَـا سَبَدًا(6)


[1] في (ز): ((الكوكب)) وفي (ص): ((الركب)) وكلاهما تصحيف والصواب المثبت.
[2] في (ص): ((أماناتهم)).
[3] في المطبوع: ((وغيرها)).
[4] في (ص): ((باليد)).
[5] قوله: ((يده)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((سندا)).