شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يقرع في القسمة والاستهام فيه

          ░6▒ بَابُ هَلْ يُقْرَعُ فِي القِسْمَةِ والاسْتِهَامِ /
          فيهِ النُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ، وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسهَمُوا(1) عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّنا(2) خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تْرُكُوهُمْ(3)، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا على أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا). [خ¦2493]
          القرعةُ سُنَّةٌ لكلِّ مَنْ أرادَ العدلَ في القسمةِ بين الشُّركاءِ، والفقهاءُ متَّفقون على القولِ بها، وخالفَهم بعضُ الكوفيِّين(4)، ورَدَّتِ الأحاديث الواردة فيها، وزعموا(5) أنَّه لا معنى لها، وأنَّها تُشْبِهُ الأزلامَ الَّتي نهى الله عنها، وحكى ابنُ المُنْذِرِ عن أبي حنيفةَ أنَّه جوَّزها، وقال: القرعةُ في القياسِ لا تستقيمُ، ولكنَّا تركنا القياسَ في ذلك وأخذنا بالآثارِ والسُّنَّةِ.
          وقال إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِسْحَاقَ: وليس في القرعةِ إبطالُ شيءٍ(6) مِنَ الحقِّ كما زعم الكوفيُّون، وإذا وجبت القسمةُ بين الشُّركاءِ في أرضٍ أو دارٍ، فعليهم أن يعدِّلوا ذلك بالقيمةِ، ويستهموا(7) ويصيرُ لكلِّ واحدٍ منهم ما وقع له بالقرعةِ مجتمعًا ممَّا كان له في الملكِ مشاعًا، فيصيرُ(8) في موضعٍ بعينِه، ويكون(9) ذلك بالعوضِ الَّذي صارَ لشريكه لأنَّ مقاديرَ(10) ذلك قد عدِّل بالقيمةِ.
          وإنَّما منعتِ القرعةُ أن يختارَ كلُّ واحدٍ منهم موضعًا بعينِه، وهذا إنَّما يكون فيما(11) تشابَه(12) مِنَ الدُّورِ والأرضينِ(13) والعُرُوضِ، وما تستوي رغبةُ النَّاسِ في كلِّ موضعٍ ممَّا يُقترع عليه.
          وفي قوله ◙: ((كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ)) جوازُ القرعةِ لإقرارِ النَّبِيِّ صلعم لها(14)، وأنَّه لم يذمَّ المُستهمينَ في السَّفينةِ، ولا أبطلَ فعلَهم، بل رَضِيَهُ وضربَه مثلًا لمَنْ نجَّته(15) نفسُه مِنَ الهلكةِ في دينِه، وذكر(16) البخاريُّ أحاديثَ كثيرةً في القرعةِ في آخر ِكتابِ الشهاداتِ، وترجم له بَابُ القُرْعَةِ فِي المُشْكِلاَتِ [خ¦2688] [خ¦2689].
          قال المُهَلَّبُ: وفي حديثِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيْرٍ تعذيبُ العامَّةِ بذنوبِ الخاصَّةِ، وفيه استحقاقُ العقوبةِ بتركِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِّ عن المنكرِ، وفيه تبيينُ العالمِ للمسألةِ بضربِ المثلِ الَّذي يُفَهَمُ للعوامِ(17)، وفيه أنَّه يجبُ على الجارِ أن يصبرَ على شيءٍ مِنَ الأذى لجارِه خوفًا ممَّا(18) هو أشدُّ منه.
          وأمَّا أحكامُ العُلُوِّ و السُّفْلِ تكون بين رجلين، فيعتلُّ السُّفلُ أو يريد صاحبه هدمَه، فذكر سُحْنُونٌ عن أَشْهَبَ أنَّه(19) قال: إذا أرادَ صاحبُ السُّفلِ أن يهدمَ، أو أراد(20) صاحبُ العُلُوِّ أن يبني عُلُوَّه، فليس لصاحبِ السُّفلِ أن يهدمَ السُّفلَ إلَّا مِنْ ضرورةٍ يكون هدمُه له أرفقُ لصاحبِ العُلُوِّ لئلَّا ينهدمَ بانهدامِه العُلُوَّ، وليس لربِّ العُلُوِّ أن يبني على عُلُوِّه شيئًا(21) لم يكن قبل ذلك إلَّا الشَّيءَ الخفيفَ الَّذي لا يضرُّ بصاحبِ السُّفلِ.
          ولو تكسَّرتْ(22) خشبةٌ مِنْ سقفِ العُلُوِّ لأدخل مكانَها خشبةً ما لم تكن أثقلَ منها، ويخاف ضررها على صاحبِ السُّفلِ، قال أَشْهَبُ: وبابُ الدَّارِ على صاحبِ السُّفلِ، قال: ولو(23) انهدم السُّفلُ(24)، أُجبر صاحب السُّفلِ على بنائه، وليس على صاحب العُلُوِّ أن يبني السُّفلَ، فإن أبى صاحب العُلُوِّ(25) مِنَ البناء، قيل له: بعْ ممَّن يبني، وروى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ في السُّفلِ لرجلٍ والعُلُوِّ لآخرَ، فاعتلَّ السُّفلُ، فإن صلاحه على ربِّ السُّفلِ، وعليه تعليق العُلُوِّ(26) حتَّى يصلح سُفْلَه لأنَّ عليه أن يحملَه إمَّا على بنيانٍ وإمَّا على تعليقٍ.
          وكذلك لو كان العُلُوُّ على عُلُوٍّ(27)، فتعليق العُلُوِّ الثَّاني على صاحبِ الأوسطِ في إصلاحِ الأوسطِ، وقد قيل: إنَّ تعليقَ العُلُو على ربِّ العُلُو حتَّى يبني الأسفلَ.
          وحديثُ النُّعْمَانِ حُجَةٌ لقولِ مالكٍ وأَشْهَبَ، وفيه دليلٌ على أنَّ صاحبَ السُّفلِ ليس له أن يُحْدِثَ على صاحبِ العُلُوِّ ما يضرُّ به، وإنَّه(28) إن(29) أحدثَ عليه ضررًا لزمه إصلاحَه دونَ صاحبِ العُلُوِّ، وأنَّ لصاحبِ العُلُوِّ منعه مِنَ الضَّررِ، / فقوله(30) ◙: (فإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)، ولا يجوزُ الأخذُ إلَّا على يدِ الظَّالمِ ومَنْ هو ممنوعٌ مِنْ إحداثِ ما لا يجوزُ له في السُّنَّةِ.


[1] في المطبوع: ((استهموا))، وغير واضحة في (ص).
[2] في المطبوع: ((أنَّا))، وغير واضحة في (ص).
[3] في المطبوع: ((يتركوهم)).
[4] في (ز): ((وخالفها الكوفيُّون بعضهم)).
[5] في (ز): ((وزعم)).
[6] في (ز): ((لشيء)).
[7] في (ز): ((ثمَّ يستهموا)).
[8] في (ز): ((فيضمُّ)).
[9] زاد في (ز): ((ذلك)).
[10] قوله: ((مقادر)) غير واضحة في (ص).
[11] في (ز): ((فيها)).
[12] في (ز): ((يتشابه)).
[13] في المطبوع: ((الأرض)).
[14] صورتها في (ز): ((بها)).
[15] في (ز): ((نجى)).
[16] في (ز): ((وقد ذكر)).
[17] في (ز): ((تفهمه العوام)).
[18] في (ز): ((ما)).
[19] قوله: ((أنَّه)) ليس في (ز).
[20] في (ز): ((وأراد)).
[21] في (ص): ((شيء)).
[22] في (ز): ((انكسرت)).
[23] في (ز): ((وإذا)).
[24] زاد في (ز): ((والعلو)).
[25] في (ز): ((السُّفل)).
[26] قوله: ((لآخر، فاعتلَّ السُّفل، فإن صلاحه على ربِّ السُّفل، وعليه تعليق العلوِّ)) ليس في (ص).
[27] في (ز): ((كان على العلوِّ علو)).
[28] في المطبوع: ((وإن)).
[29] قوله: ((إن)) ليس في المطبوع.
[30] في المطبوع: ((لقوله))، وغير واضحة في (ص).