مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الاستثناء في الأيمان

          ░9▒ باب الاستثناء في الأيمان
          فيه حديث أبي موسى أتيت النبي صلعم في رهط من الأشعريين أستحمله، فقال: ((والله لا أحملكم))، الحديث.
          وفيه: ((وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين)) الحديث.
          وحديث سفيان عن هشام بن حجير عن طاوس عن أبي هريرة قال: قال سلمان: لأطوفن الليلة الحديث وسلف.
          فقال أبو هريرة يرونه: ((لو قال إن شاء الله، لم يحنث دركاً له في حاجته)).
          قوله: (فأتي بإبل) وفي رواية: بشائل. وعليها اقتصر ابن بطال وابن التين ثم قال ابن بطال، وقع في رواية أبي زيد بشائل مكان قوله: (إبل) وأظنه بشوائل إن صحت الرواية.
          قال أبو عبيد، عن الأصمعي: إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جف لبنها، فهي شائل.
          وفي كتاب ((العين)): ناقة شائلة، ونوق شؤل: التي جف لبنها، وشؤلت الإبل لحقت بطونها بظهورها. وبخط الدمياطي: الشائل بلا هاء: الناقة التي تشؤل بذنبها للقاح ولا لبن لها أصلاً، والجمع: شؤل مثل راكع وركع، والشائله بالهاء: هي التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية.
          قال ابن التين: شائل جاء بلفظ الواحد والمراد به الجمع كالسامر والنادي، الخطابي: يقال: ناقة شائل إذا قل لبنها، وأصله من قولك: شال الشيء إذا ارتفع كالميزان ونحوه، يريد بذلك ارتفاع ألبانها، يقال: شائل وشؤل مثل صاحب وصحب، وراكب وركب. وجاء في غير هذه الرواية: فأتي بشوائل.
          قال أبو الحسن القابسي: الشائل: القطيع من الإبل.
          قوله: (بثلاث ذود) وفي نسخة: بثلاثة. وأورده ابن التين بثلاث، وكذا وقع هنا، وصوابه (بثلاثة)؛ لأن الذود مؤنث.
          قوله: (وكان دركا له في حاجته) أي: إدراكاً له وبلوغ إبل، تقول: مشيت / حتى أدركته. وهو بفتح الدال والراء.
          قوله: (لو استثنى) هو موافق لترجمة الباب، وقال ابن التين: ليس هذا الاستثناء الذي يرفع حكم اليمين ويحل عقده، وإنما هذا استثناء بمعنى الإقرار لله تعالى، والتسليم، وهو نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ} [الكهف:23-24]، وإنما يرجع حكم اليمين إذا نوى به الاستثناء في اليمين.
          واختلف في الوقت الذي إذا استثنى فيه الحالف سقطت عنه الكفارة، فقال إبراهيم والحسن والثوري ومالك والكوفيون والأوزاعي والليث والشافعي وأبو عبيد وجمهور العلماء: الثنيا لصاحبها في اليمين ما كان ذلك نسقاً يتبع بعضه بعضاً، ولم يقطع كلامه قطعاً يشغل عن الاستثناء ما لم يقم من محله فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له.
          وفيه قول ثان: قال الحسن البصري في رواية وطاوس: للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه، وقال قتادة: أو يتكلم.
          وفيه قول ثالث: قال أحمد: يكون له الاستثناء ما دام في ذلك الأمر، وكذلك قال إسحاق إلا أن يكون سكوت ثم عود إلى ذلك الأمر.
          وقول رابع: عن عطاء رواية أخرى: أن له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة.
          وقول خامس: قال سعيد بن جبير: له ذلك بعد أربعة أشهر.
          وسادس: قال مجاهد: له ذلك بعد سنتين.
          وسابع: قال ابن عباس: يصح ولو بعد حين. فقيل: أراد به سنة، وقيل: وأبداً، حكاه ابن القصار.
          وروى وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: ليستثني في يمينه متى ذكر. واحتج بقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24].
          واحتج من أجاز الاستثناء بعد السكوت بما روى قيس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه ◙ قال والله لأغزون قريشا ثلاثاً ثم سكت فقال إن شاء الله تعالى أخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) ورواه (د) عن عكرمة مرسلاً.
          وقيل: أن قوله: ((لأطوفن)) لم يكن يميناً على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
          قال المهلب: وإنما جعل الله الاستثناء في اليمين رفقاً منه بعباده في أموالهم؛ ليوفر بذلك الكفارة عليهم إذا رد المشيئة إليه تعالى.
          واختلف في الاستثناء في الطلاق العتق، فقال مالك وابن أبي ليلى والليث والأوزاعي: لا يجوز فيه استثناء، وروي مثله عن ابن عباس وابن المسيب والشعبي وعطاء والحسن ومكحول وقتادة والزهري.
          وأجاز الاستثناء فيهما طاوس والنخعي والحسن، ورواية عن عطاء، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وإسحاق، واحتج لهم بحديث سليمان: ((لو قال إن شاء الله لم يحنث))، وإن قول الحالف: إن شاء الله عامل(1) في جميع الأيمان؛ لأنه لم يخص بعض الأيمان من بعض، فوجب أن يرفع الاستثناء الحلف في الطلاق والعتق وجميع الأيمان، وحجة من أوجب الطلاق والعتق ومنع دخول الاستثناء فيهما أن لا يكون إلا في اليمين بالله، وبذلك ورد الأثر عن رسول الله قال: ((من حلف بالله ثم قال: إن شاء الله فلا حنث عليه)) أسنده أيوب السختياني وكثير بن فرقد وأيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلعم، وذكره مالك في ((الموطأ))، عن نافع، عن ابن عمر من قوله.
          قال الأبهري: فكان ذكره الاستثناء إنما هو في اليمين بالله دون غيرها من الأيمان، ولم يجز تعدي ذلك إلى غيرها بغير دليل، وأما من جهة القياس، فلما كان الطلاق والعتق لا تحله الكفارة التي هي العتق والإطعام والكسوة، وهي أقوى فعلاً وأغلظ على النفوس من الاستثناء الذي هو القول، لم يحله القول؛ لأن ما لا يحله الأوكد لم يحله الأضعف، ولا تعلق لهم بحديث / سليمان؛ لأن ظاهر قوله: ((لأطوفن)) لم يكن معه يمين، وإنما كان قولاً جعل فيه المشيئة لنفسه حين لم يقل: إن شاء الله، كما قال تعالى لمحمد نبيه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} الآية [الكهف:23].
          وأدب عباده بذلك ليتبرؤا إليه تعالى من الحول والقوة، ولم يكن قول سليمان يميناً بالله يوجب عليه الكفارة فسقط عنه بالاستثناء.
          فإن قلت: قوله ((لو قال: إن شاء الله لم يحنث)) يدل أنه كان يميناً؟ قيل: معنى قوله: ((لم يحنث)) لم يأثم على تركه استثناء المشيئة، فلما أعطى لنفسه الحول فكأنه حنث.
          قوله: والحنث في لسان العرب: الإثم، ومن لم يرد المشيئة إلى الله في جميع أموره فقد حرج، والحنث أيضاً: أن لا يبر ولا يصدق.
          عن الحافظ أبي موسى المديني في كتابه ((التبيين لاستثناء اليمين)) قال: لا أعلم حديثاً في الصحاح أكثر اختلافاً في العدد المذكور منه، يعني حديث سليمان هذا، ففي تعليق (خ): مائة امرأةٍ وتسعاً وتسعين امرأة، قال أبو عبد الله: وتسعين أصح، وفي رواية عنده: ((سبعين امرأة)) ولمسلم: ((ستون امرأة))، وأوله موقوف. وفي بعض نسخ (م) عقب هذه الأحاديث قال (م): هذا الاختلاف ليس من قوله ◙ لكن من الناقلين على قدر ما كان علمهم يحيط به.
          قال: وإنما أخرجه الشيخان مستنبطين منه أن الاستثناء في اليمين رافع للحنث، لا أن سليمان حنث، لكنه يرفع الخلاف كما قال: ((لكان دركاً لحاجته)) قال: ولمسلم عن أبي هريرة يرفعه: ((من حلف فقال إن شاء الله تعالى لم يحنث)).
          قلت: هذا ليس في (م)، وإنما هو في (ت) (ن) (ق)، وقال (ت): إنه خطأ، إنما هو حديث الباب ((لأطوفن)) إلى آخره.
          ولأبي دواد من حديث سفيان عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: ((إذا حلف الرجل فقال إن شاء الله فقد استثنى)) رواه الأربعة، وحسنه الترمذي، وقد روي عن أبي هريرة أنه ◙ قال: ((إن من تمام الأيمان أن يستثني الرجل في كل حديثه)).
          قال أبو موسى: من قال بجوازه إلى سنة أو سنتين يؤدي إلى إبطال حكم قوله: {وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89] وإبطال حكم ما ورد في الكفارة من الأخبار الصحاح والآثار، وإبطال الكتب المصنفة فيها، لأنه إذا جوز إلى سنة أو سنتين جوز إلى ثلاث وأربع، وما فوق ذلك وليس في السنة والسنتين نص يقتصر عليه، فيؤدي ذلك إلى أنه متى أراد الاستثناء استثنى، ولا يحتاج إلى كفارة أبداً، وهذا لا يقول به أحد؛ لأن في ذلك إبطال حكم الكتاب والسنة.
          وقال ابن عبد البر: كان ابن عباس يرى له الاستثناء أبداً متى ما ذكر، وهو قول ابن جبير ومجاهد.
          ويمين الأبكم واستثناؤه لازمان على حسب طاقته بصوت أو إشارة، والرجال والنساء والعبيد والمشركون في ذلك أيضاً سواء؛ لأن الله تعالى قال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] ولم ينص بتخصيص عبد من حر، ولا ذات زوج من أيم، ولا بكر من ثيب.
          وفي ((الإشراف)) لابن هبيرة: اختلفوا هل يجوز العدول إلى الكفارة مع القدرة على الوفاء، قال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز، وقال الشافعي: الأولى أن لا يعدل، فإن عدل جاز ولزمته الكفارة، وعن مالك روايتان كالمذهبين.


[1] في هامش المخطوط: في (ط): ((عام)).