الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الشركة في الطعام وغيره

          ░13▒ (باب الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ) أي: بابُ جوَازِهَا في المطعُومِ وفي غيرِهِ بالتَّساوِي في المثلَى بالكَيلِ وبالقيمَةِ في المتقوِّمِ، وأرادَ بغيرِهِ كلَّمَا يجُوزُ تملُّكهُ كمَا قالَ العينِيُّ وهو أعمُّ من تفسِيرِ ((الفتح)) لهُ بالمثليَّاتِ.
          قال في ((الفتح)): والجمهُورُ على صحَّة الشَّركةِ في كلِّ ما يتملَّكُ، والأصَحُّ عند الشَّافعيَّةِ اختصَاصُها بالمُثلَى، قال: وسبِيلُ مَن أرادَ الشَّركةَ بالعُرُوضِ عندَهُم أن يبِيعَ بعضَ عرضِهِ المعلُومِ ببعضِ عرضِ الآخرِ، ويأذَنُ لهُ في التَّصرُّفِ وفي وجهٍ لا يصحُّ إلَّا في النَّقدِ المضرُوبِ كمَا مرَّ، وعن المالكِيَّةِ: تكرَهُ الشَّركَةُ في الطَّعامِ، والرَّاجحُ عندَهُم الجوَازُ، انتهى.
          وعبارَةُ القسطَلانيِّ: لكِن من أرَادَ الشَّركَةَ معَ غيرِهِ في العرُوضِ المتقوِّمَةِ بَاعَ أحدُهُما نصفَ عرضِهِ بنِصفِ عرضِ صاحبِهِ وتقابَضَا أربَاعَ كلٍّ منهُمَا نصفَ عرضِهِ لصاحبِهِ بثَمنٍ في الذِّمَّةِ، وتقابَضَا كمَا صرَّحَ به في ((الروضة)) وأذِنَ ذلكَ كلٌّ منهُمَا للآخرِ في التَّصرُّف سواءٌ تجانَسَ العَرضَانِ أم اختَلفَا، وإنَّما اعتبرَ التَّقابُضَ ليستَقرَّ المُلكُ انتهَت، وأطَالَ في ((العمدة)) كـ((التوضيح)) في تفصِيلِ الخِلافِ في أنواعِ الشَّركَةِ.
          (وَيُذْكَرُ) بالبنَاءِ للمفعُولِ (أَنَّ رَجُلاً) قالَ في ((الفتح)): لم أقِفْ على اسمِهِ (سَاوَمَ شَيْئاً) أي: ليشتَرِيهِ من غيرِهِ (فَغَمَزَهُ آخَرُ) أي: أشارَ إليهِ بيَدِهِ أو نحو عينِهِ بشرائِهِ فاشتَرَاهُ.
          قالَ في ((القاموس)): غَمَزهُ بيَدِهِ يَغمِزُهُ: شِبهُ نَخْسَهُ، وبالعَينِ والجَفْنِ والحَاجِبِ: أشَارَ، وبالرَّجُلِ: سَعَى به سرًّا.
          (فَرَأَى عُمَرُ) أي: ابنُ الخطَّابِ ☺ (أَنَّ لَهُ) أي: للَّذِي غَمزَ (شَرِكَةً) أي: في الشَّيءِ الذي اشتَرَاهُ المسَاوِمُ.
          قالَ في ((الفتح)): كذا للأكثَرِ، وفِي روَايَةِ ابنِ شَبَويه: فرَأَى ابنُ عُمرَ، وعليهِمَا شَرحَ ابنُ بطَّال، والأوَّلُ أصَحُّ فقد وصلَهُ سعيدُ بنُ منصُورٍ من طريقِ إياسِ بن معَاويَة أنَّ عمرَ أبصرَ رجُلاً يُسَاوِمُ سلعَةً وعندهُ رجُلٌ فغمزَهُ حتَّى اشترَاهَا فرَأَى عمرُ أنَّها شَركةٌ، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يشترَطُ للشَّركةِ صيغَةٌ ويُكتَفَى فيها بالإشارَةِ إذا ظهَرَتِ القَرينَةُ وهو قَولُ مالِكٍ، انتهى.
          وأقولُ: يؤيِّدُ أيضاً روايةُ الأَكثرِ قولُ ((التنقيح)) للزَّركشيِّ يشيرُ؛ أي: البُخَاريُّ إلى ما روَاهُ سفيانُ عن هشامِ بن حجِيرٍ عن إياسِ بن معَاويةَ قال: بلغَنِي أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ قَضَى في رجُلينِ حَضَرا سلعَةً فسَاوَم بها أحدُهُما، فأرَادَ صاحبُهُ أن يزِيدَ فغمزَهُ بيدِهِ فاشتَرَى فقالَ: أنا شرِيكُكَ فأبِى أن يشرِكَهُ فقَضَى لهُ عمرُ بالشِّركَةِ، انتهى.
          ووقَعَ في نسخَةِ الصَّغانيِّ ما نصُّه: <قالَ أبُو عبدِ الله يعنِي: المصنِّفُ إذا قَالَ الرَّجلُ أشرِكْنِي فإِذا سكَتَ يكُونُ شرِيكَهُ في النِّصفِ>، انتهى.
          وكأنَّهُ أخذَهُ من أثرِ عمرَ المذكُورِ، وقالَهُ في ((الفتح))، ورأيتُ في نسخَةٍ معتمدَةٍ تأخيرَ هذِهِ النُّسخَةِ إلى آخرِ البَابِ، وقالَ فيهِ أيضاً: قالَ مالِكٌ في السِّلعةِ تعرَضُ للبَيعِ فيقِفُ من يشترِيهَا للتِّجارَةِ، فإذا اشتَراهَا واحِدٌ منهُم واشترَكَ الآخَرُ لزِمهُ أن يشرِكَهُ؛ لأنَّهُ انتَفعَ بتركِهِ الزِّيادَةَ عليهِ، انتهى.
          ونقلَ بعضُهُم عن الحنفيَّةِ مثلَهُ فليُرَاجَع، ونقلَ ابنُ التِّينِ عن مالكٍ في روايَةِ أشهَب فيمَن يبتَاعُ / سلعَةً وقَومٌ وقُوفٌ، فإذا تمَّ البيعُ سألُوهُ الشِّركَةَ فقالُوا: أمَّا الطَّعامُ فنَعَم وأمَّا الحيوَانُ فما علِمتُ ذلك فيه، زاد في الوَاضِحةِ: وإنَّمَا رأيتُ ذلكَ خَوفاً أن يفسِدَ بعضُهُم على بَعضٍ إذا لم يَقضِ لهُم بذلك، وقال أصبَغُ: الشَّركَةُ بينَهُم في جمِيعِ السِّلعِ من الأطعِمَةِ والعُرُوضِ والدَّقيقِ والحيوَانِ والثِّيَابِ واختُلِفَ فيمَن حضَرَهَا ممَّن ليسَ من أهلِ سُوقِهَا ولا ممَّن لا يتَّجرُ بهَا، فقالَ مالِكٌ وأصبَغُ: لا شركَةَ لهُم، وقالَ أشهَبُ: نعَمْ.