الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته

          ░24▒ (بَابُ مَنْ تَمَطَّرَ): بتشديد الطَّاء؛ أي: تعرَّض ووقف قصداً (فِي الْمَطَرِ): قال شيخ الإسلام: وفي نسخةٍ: <يخطب> بدل: ((تمطَّر)) (حَتَّى يَتَحَادَرَ): أي: يتنزَّلَ وينصبَّ المطر (عَلَى لِحْيَتِهِ): بكسر اللام، فيسنُّ التعرُّض له؛ لأنُّه حديث عهدٍ بربِّه تعالى كما في الحديث؛ ولأنَّه لم تمسَّه الأيدِي الخاطئة، ولم تكدره ملاقاة أرضٍ عبدَ فيها غير الله تعالى، وما أحسنَ قول القائل:
تَضُوْعُ أَرْوَاحُ نَجْدٍ مِنْ ثِيَابِهِمْ                     عِنْدَ القُدُوْمِ لِقُرْبِ العَهْدِ بِالدَّارِ
          قال في ((الفتح)): تفعَّل يأتي لمعانٍ أليَقُها هنا أنَّه بمعنى: مواصلة العمل في مهلةٍ نحو تفكَّرَ، ولعلَّه أشار إلى ما أخرجه مسلمٌ عن أنسٍ قال: حسرَ رسول الله صلعم ثوبَه حتَّى أصابه المطر، وقال: ((إنَّه حديث عهدٍ بربِّه))، قال العلماء: أي: قريب العهد بتكوين ربِّه، وكأنَّ المصنف أراد أن يُبيِّن أن تحادرَ المطر على لحيتِه عليه السلام كان على سبيل القصدِ، ولذلك ترجمَ بقوله: ((من تمطَّرَ)): أي: قصد نزولَ المطرِ عليه: إذ لو لم يكنْ باختياره لنزلَ عن المنبرِ حين وكفَ السَّقف عليه. انتهى ملخَّصاً.
          وقال العينيُّ: باب تفعَّل يأتي لمعانٍ: التكلُّف والاتِّخاذ والتجنُّب / والعمل، ثمَّ قال معترضاً على ((الفتح)): الذي ذكرَه أهلُ الصَّرف في معاني تفعَّل هو ما ذكرناه، والذي ذكرَه هذا القائلُ يقرب من الرَّابع، لكنه لا يدلُّ على هذا شيءٌ في حديث البابِ، وحديث مسلمٍ لا يدلُّ على مواصلةِ العمل في مهلةٍ، وإنَّما يدلُّ على أنه عليه السَّلام كشف ثوبه ليصيبه المطرُ، وهذا لا يدلُّ على مواصلةٍ، وقصْدُ هذا المعنى في الحديث غيرُ صحيحٍ، ولا وضع التَّرجمة له، وكونُ تحادرَ المطر على لحيتِهِ كان عن قصدٍ دعوى بلا برهانٍ، وليس في الحديث ما يدلُّ على ذلك، واستدلاله على ما ادَّعاه بما علَّل به دعوى بلا برهانٍ، بل لقائلٍ أن يقولَ: عدم نزوله من المنبر لئلَّا تنقطع الخطبةُ. انتهى ملخَّصاً.
          وأقول: أمَّا الاعتراضُ الأخيرُ فقد أبداه ابنُ رجبٍ قبلَه احتمالاً معترِضاً به على البخاريِّ، وذكر لفظ حديثِ مسلمٍ: قال أنسٌ: أصابنا ونحنُ مع رسولِ الله مطرٌ، فحسرَ رسولُ الله ثوبَهُ حتى أصابه من المطرِ، فقلنا: يا رسولَ الله، لِمَ صنعت هذا؟ قال: ((لأنَّهُ حديثُ عهدٍ بربِّه)).
          ثمَّ قال ابن رجبٍ: وخرجَ ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن أبي موسى الأشعري، قال: رأيتُ أبا حكيمٍ إذا كانت أوَّل مطرةٍ تجرَّدَ ويقول: إنَّ عليًّا كان يفعله ويقول: إنَّه حديث عهدٍ بالعرش، وقال أيضاً: وهذا يدلُّ على أنَّ عليًّا كان يرى أنَّ المطرَ ينزلُ من البحر الَّذي تحتَ العرش، وحديث العبَّاس عن النبيِّ في ذكر السَّحاب والمزنِ والعنان، وبعد ما بين السَّماء والأرض، وبعد ما بين السَّماواتِ بعضها من بعضٍ، وأن فوقَ السَّماء السابعة بحرٌ، بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماءٍ إلى سماءٍ يشهد لذلك، وخرَّجه أحمد وأبو داود والترمذيُّ وابن ماجه والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال الترمذيُّ: حسنٌ غريبٌ، وكذلك قاله عكرمةُ وخالد بن معدان وغيرهما من السَّلف: إنَّ المطر ينزلُ من تحتِ العرش، ورُوي عن ابن عباسٍ ما يدلُّ عليه، وأمَّا من قال: إنَّ المطر كلَّه من البحر فإنَّه قال ما لا علْمَ له به، فإن استدلَّ بأنَّه يشاهد اغتراف السَّحاب من البحر، قلنا: مِن أين له أنَّ كلَّ السحاب كذلك؟ انتهى ملخَّصاً.