الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر

          951- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) أي: ابنُ منهالٍ (قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) أي: ابن الحجَّاج (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (زُبَيْدٌ) بزاي فموحدة مصغَّراً، إذ كلُّ ما في البخاري زبيد، فهو بالموحدة، وكلُّ ما في ((الموطأ)) فهو بالمثناة التحتية؛ أي: ابن الحارثِ الكوفي.
          (قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ) بسكون العين المهملة قبلها شين معجمة (عَنِ الْبَرَاءِ) بالمد وتخفيف الراء ☺، وكلُّهم تقدَّموا (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَخْطُبُ) أي: خطبة عيد النَّحرِ (فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ) / بالهمز من البداءة (مِنْ) ولأبي ذرٍّ عن المستملي: <في> (يَوْمِنَا هَذَا) أي: يوم عيد النَّحر (أَنْ نُصَلِّيَ) أي: صلاة العيد ركعتين، فأول: خبر مقدم لقولِهِ: ((أن نصلي))، وهو أولى من عكسهِ، فافهم، لا أن ننحر، فالأوليَّةُ في هذا اليوم بين النَّحر والصلاةِ، وإلَّا فلا شكَّ أنَّه يتقدَّمُ الصَّلاة غيرها، وهذا قاله صلعم بعد صلاته قبل رجُوعهِ، فعبَّر بالمضارع عن الماضي استحضاراً لصُورةِ الفعل، بدليل ما سيأتي في باب استقبال النَّاسِ في خطبة العيد؛ فإن فيه: عن البراء قال: خرج النبيُّ صلعم يوم أضحى إلى البقيع فصلَّى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وقال: ((إنَّ أولَ نسُكِنا في يومِنَا هذا أن نبدَأَ بالصلاةِ ثمَّ نرجِعَ فنَنحَرَ)) الحديث.
          تنبيه: أوَّل صلاةِ عيدٍ صلاها النبيُّ صلعم صلاة عيد الفطر من السَّنة الثَّانية من الهجرَةِ لفرض رمضَانَ في شعبان تلك السَّنة، وقد اختلفَ العُلماءُ في أنَّ صلاة العيدِ مطلقاً سنةٌ أم واجبَةٌ بعد الإجماعِ على مشروعيتِها، فعند الشَّافعيِّ ومالِكٍ: هي سنةٌ مؤكَّدةٌ على الصحيحِ، تُصلَّى ركعتين، يكبِّرُ في الأولى عند الشافعيَّةِ: سبعاً غير تكبِيرَةِ الإحرام، وفي الثانيَةِ: خمساً قبل القرَاءَةِ فيهما، ويحسن أن يفصلَ بين كلِّ تكبيرَتَينِ بنحو: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
          وقيل: إنَّها فرضُ كفايةٍ، وبه قال الإصطخريُّ من الشافعيَّةِ؛ لأنَّها من شعائِرِ الإسلام الظاهرَةِ، فعَليهِ: يُقاتَلُ أهل بلدٍ ترَكُوها، وبه قال الإمام أحمدُ ومالكٌ في روايةٍ، وابن أبي ليلى، وعند أبي حنيفةَ وأصحابه: واجبةٌ.
          قال في ((الهداية)): وتجبُ صلاة العيد على كلِّ من تجبُ عليه الجمعة، وفيها ستٌّ تكبيراتٍ: ثلاثٌ عقب القراءَةِ في الرَّكعةِ الثانية، وثلاثٌ قبلها في الركعة الأولى.
          وقال ابن رجبٍ فيما سيأتي في باب: إذا فاته العيدُ يُصلِّي ركعتين قال: فأما التكبيرُ في الأولى سبعاً، وفي الثَّانيةِ خمساً، فهو قولُ جمهور العلماء، وقد رُويَ عن عمر وعثمان وعليٍّ وابن عمر وابن عبَّاسٍ وأبي هريرة ♥، وعن عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٍ، والزُّهريِّ، وقال: مضت السُّنة به، وحكاهُ ابن أبي الزِّنادِ عن فقهاء المدينة السَّبعةِ، وهو قول مكحولٍ وربيعة والليث والأوزاعيِّ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وأكثرِ أهل الحديث، منهم: ابن المديني، ولكن اختلفوا، هل يُكبِّر في الأولى سبعاً غير تكبيرةِ افتتاح الصلاة أم بها؟
          فقال مالكٌ وأحمد: يحسبُ منها تكبيرةَ الافتتاح، ورويَ ذلك عن ابن عباسٍ صريحاً، وقال الشافعيُّ: لا تحسبُ منها، وعن اللَّيثِ والأوزاعيِّ: قولان كالمذهبين، وقالت طائفةٌ: يكبِّر في الأُولى: خمساً بتكبيرَةِ الافتتاح، وفي الثانية: أربعاً بعد القراءة، ورويَ ذلك عن ابن مسعُودٍ وإسحاق وهو قولُ سفيانَ وأهل الكوفة، وفي عدد التَّكبير أقوالٌ متعدِّدةٌ للسلف.
          وفيه أحاديثُ مرفوعةٌ متعدِّدةٌ لم يخرِج منها البخاريُّ شيئاً، إذ ليس منها على شرطه شيءٌ، انتهى ملخَّصاً.
          وقال العينيُّ: وفي ((الغنية)): قيل: هي فرضٌ، ونقلَ / القرطبيُّ عن الأصمعيِّ: أنها فرضٌ، ثمَّ قال: وحجَّة أصحابنا في الوجوب مواظبتهُ صلعم عليها من غير تركٍ، واستدلَّ شيخُ الإسلام على وجوبها بقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] قيل: المرادُ: صلاة العِيدِ، والأمرُ للوجوب، وقيل: في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أنَّ المراد به: صلاة عيد النَّحر، فيجب بالأمر، انتهى.
          وأجيب: بأنَّه صحَّ أنَّه صلعم ترك صلاة عيد النَّحر بمنًى، وأمَّا خبر فعله لها بها فضعيفٌ غريبٌ، وأجيب أيضاً: بأنَّا لا نسلم أنَّ المراد بقوله: {فَصَلِّ} صلاة العيد، سلَّمنا ذلك؛ لكن ظاهرهُ يقتضي وجوب النَّحر، والحنابلةُ لا يقولون به، سلَّمنا أنَّ المراد من النَّحر: ما هو أعمُّ من الواجب والمندوب؛ لكن وجوب الصلاة خاصٌّ به صلعم، سلَّمنا الجميع؛ لكن لا نسلم أنَّ الأمر للوُجُوب، بل للنَّدبِ جمعاً بينه وبين الأحاديث الأخر، سلمنا جميعَ ذلك؛ لكنَّ صيغة: {فَصَلِّ} خاصةٌ به؛ فإن حُمِلت على أمَّته وجب إدخال الجميع، فلما دلَّ الدليلُ على إخراج بعضهم، كان ذلك قادحاً في القياس، نقلهُ القسطلانيُّ عن البساطيِّ، ولا يخفى ما في كثيرٍ منها.
          واستدلَّ القائلون بعدم الوُجُوب، ومنهم البخاريُّ لترجمتهِ بقوله: ((باب: سنَّةِ العيدين)) بحديث الأعرابيِّ: هل عليَّ غيرها؟ قال: ((لا، إلَّا أن تطَوَّع))، وبحديث: ((خمسُ صلوَاتٍ كتبَهُنَّ اللهُ على العِبَادِ في اليَومِ واللَّيلةِ))، وحملوا ما نقلهُ المزنيُّ عن الشافعيِّ من وجُوبِها على التأكُّد كحديث: ((غسلُ الجُمُعةِ واجِبٌ على كلِّ محتَلمٍ))، وفيها تفاصيلُ أخرُ مفصَّلةٌ في الفروع، ولعل النَّوبةَ تفضي بها إلى ذكرها أيضاً.
          وقوله: (ثُمَّ نَرْجِعَ): بالنصب عطف على: ((نصلي))، وبالرفع على الاستئناف؛ أي: ثم نحن نرجع، ومُقتَضى كلام الكرمانيِّ والبرماوي: أنَّ الرفع هو الأكثرُ؛ فإنَّه قال: ((نرجعُ)) بالرفع، وفي بعضها بالنصب.
          (فَنَنْحَرَ): أي: فنذبحُ يجري فيه ما مر في: ((نرجع)) (فَمَنْ فَعَلَ) أي: مثل ما ذكرنا بأن ابتدأ بالصلاةِ، ثمَّ رجعَ فنحر (فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا) أي: طريقتنا وشريعتنا، وفيهِ المطابقةُ للترجمةِ كما مرَّ تقريرهُ في الترجمة.
          تنبيه: قال ابن بطَّال: فيه: أنَّ صلاة العيد سنَّةٌ، وأن النحرَ لا يكونُ إلَّا بعد الصَّلاةِ، وأنَّ الخطبة أيضاً بعدها، انتهى.
          وردَّ الأخيرَ الكرماني فقال: أقول: الأخيرُ ممنوعٌ، بل المستفادُ منه: أنَّ الخطبة مقدمةٌ على الصلاة، انتهى.
          قال البرماويُّ: كأنَّهُ فهم ذلك من قوله في الخطبة: ((أول ما نبدأُ به أن نُصلِّي))، ولكن لا دلالةَ فيه؛ لأنَّهُ خطبَ بعدها.
          وقال العينيُّ: لقد غرَّ الكرمانيَّ ظاهرُ قوله: ((يخطبُ فقال... إلخ)) الفاءُ فيه تفسيريةٌ، فسَّر في خطبتهِ التي خطبَ بها بعد الصلاةِ: أن أوَّل ما نبدأُ به يوم العيد الصلاة، انتهى فتدبَّر.
          ورواةُ الحديثِ بصريُّون، وأخرجهُ المصنِّف في الأضاحي وفي الأيمان والنذور، ومسلمٌ في الذبائح، وأبو داود والتِّرمذيُّ في الأضاحي، والنسائيُّ في الصلاة والأضاحي.