الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إنما هذه لباس من لا خلاق له

          948- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ) بفتحتين فألف / قبل النون؛ أي: الحكمُ بن نافعٍ (قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) أي: ابن أبي حمزةَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ) أي: والدُ سالمٍ (ابْنَ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب ☻.
          (قَالَ) أي: عبد الله (أَخَذَ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ((أخذ)) هنا كالآتي: بهمزة مفتوحة فخاء فذال معجمتين، وفي بعض النُّسخ وجد هنا بواو فجيم فدال مهملة، وهي أولى كما في ((الفتح)) لئلا يتكرَّر مع: ((أخذ)) الآتي، وإن وجه الكرماني الأوَّل بأنه أرادَ ملزومَ الأخذ وهو الشِّراء؛ لكن نظرَ فيه في ((الفتح)) و((العمدة)) بأنَّه لم يقعْ منه ذلك، فلعلَّه أراد السَّوم، انتهى.
          وعبارة الكرمانيِّ: فإن قلت: فما فائدةُ تكرار: ((فأخذها))؟ قلتُ: أراد من الأوَّل ملزومُه، وهو اشترى.
          وقد يقال: مرادُ الكرمانيِّ باشترى: أراد الشِّراء، فيصدقُ بالسَّوم مع أن مطلق الأخذ لا يستلزم السَّوم، فتأمَّل.
          وقوله: (جُبَّةً) بضم الجيم وتشديد الموحدة، مفعول ((أخذ)). قال في ((القاموس)): وهي ثوبٌ معروفٌ، وجمعه: جِباب _بكسر الجيم_ وجُبُب _بضمها_ وهو أولى من قول الجوهريِّ: ما يُلبس من الثِّياب، فتأمَّل.
          (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) بقطع الهمزة مكسورة، غليظ الدِّيباج، فارسيٌّ معربٌ، ففي ((المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب)) للسُّيوطي نقلاً عن الضَّحَّاك أنه قال: الإستبرق: الدِّيباجُ الغليظ، وهو بلغة العجم: إستبره.
          وجملة: (تُبَاعُ) بالبناء للمجهول والفوقية أوله، صفة ثانية لجبَّة لا لإستبرق، كما قاله العينيُّ، وإن تبعه القسطلاني، وإن أمكنَ توجيههُ لبعده، فافهم، ويجوز جعلها حالاً منها (بِالسُّوقِ فَأَخَذَهَا) أي: فتناول عمر الجبَّة ليعرضها على النَّبيِّ صلعم، فلعله يشتريها، أو يشتريها له عمر (فَأَتَى) أي: جاء عمر، زاد الأصيليُّ: <بها> (رَسُولَ اللَّهِ صلعم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ) أي: اشترِ (هَذِهِ) أي: الجُبَّة المذكورة، ويلحق بها من حيث الحكم جنسها كما في ((الفتح))، وجعل الكرمانيُّ _وتبعه البرماويُّ_ الإشارة إلى نوع الجبَّة، لا إلى شخصها، وجعلها العينيُّ إلى شخصها رادًّا على الكرمانيِّ بقوله: وظاهر التَّركيب يشهدُ لصحَّة ما ذكرته، انتهى.
          وأقول: كلامُ الكرمانيِّ أكثر فائدةً، فافهم. وقد يشيرُ إلى النَّوع قوله صلعم الآتي: ((إنما هذه لباسُ من لا خلاقَ له))، فتأمَّل.
          (تَجَمَّلْ بِهَا) أي: تلبسها، وفيه المطابقةُ للجزء الثاني من التَّرجمة لتقريره صلعم على أصل التَّجمُّل، وأما زجرهُ عليه الصلاة والسلام عنها، فلكونها كانت من حريرٍ، وأما المطابقةُ للجزء الأول، ففي قوله عقبه: ((للعيد))، فافهم.
          تنبيه: روايةُ الأكثر: <ابتع> <تجمل> بالجزم فيهما، ووقع لأبي ذرٍّ من رواية المستملي والسَّرخسي كما في ((الفتح))، أو من رواية الحموي والمستملي كما في القسطلاني: <أبتاع هذه تجمل>، أمَّا وجه رواية الأكثر، فعلى الأمر فيهما، كما صرَّح بذلك في ((التنقيح)) و((الفتح))، والظَّاهرُ كما في ((المصابيح)) للدَّماميني: أن الثَّاني مضارعٌ مجزوم في جوابِ الأمر؛ أي: فإن تبتعها تجمَّل، وأصله: تتجمل فخفف بحذف إحدى التاءين، وأما تخريج روايةِ غير الأكثر فإمَّا على أن: ((أبتاع)) و((تجمل)) مضارعان.
          قال في ((الفتح)): وضبط في نسخٍ معتمدة بهمزة استفهامٍ ممدودة ومقصُورة، وضم لام: ((تجملُ))، على أنَّ أصله: تتجمَّل، ويحتملُ على أنَّ أصل ((أبتاع)) ابتع، فأشبعت الفتحة فتولَّدت الألف.
          وقال البرماويُّ: ((أبتاع)) بلفظ المضارع للمتكلِّم على الاستفهام، وفي بعضها: ((ابتع)) بصيغة الأمر؛ أي: اشترِ، ((تجمل)) إما بالسكون بلفظ: الأمر، أو بالجزم على أنه مضَارع حذفت إحدى تاءيه، أو هو / مرفوعٌ على أن الأول: أبتاعُ أنا، فتجمَّل أنت بها، والجملةُ حال مقدَّرةٌ؛ لأنَّه للعيد والوفودِ في المستقبلِ، ولو جزم جواباً للاستفهام لكان له وجهٌ، انتهى.
          (لِلْعِيدِ) متعلِّقٌ بـ((تجمل)) على التعليل، ويحتملُ تعلُّقه بـ((ابتع)) (وَالوُفُودِ) بالفاء جمع: وافدٍ، وهو القادمُ على الرَّئيس، لا ينافي ما هنا ما مرَّ في الجمعة بلفظ: للجمعة، بدل: ((للعيد)) لأنهما روايتان: تلك رواية نافٍع، وهذه رواية سالمٍ، وهما صحيحتان، وكأنَّ ابن عمر ذكرهما معاً فاقتصر كلُّ راوٍ على أحدهما، قاله في ((الفتح)).
          وقال الكرمانيُّ _وتبعه البرماوي_ الظَّاهرُ: أنها قصَّةٌ واحدةٌ، والجمعة أيضاً عيد، بل لا يمكن تعدُّدها؛ لأنَّ عمر لا يتكرر منه مثلها قطعاً، انتهى فتدبَّره.
          (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلعم) أي: لعمر منكراً عليه، أو معلِّماً له (إِنَّمَا هَذِهِ) أي: الجُبَّة التي من حريرٍ، وفي الإشارة ما مرَّ (لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) بفتح الخاء المعجمة وتخفيف اللام؛ أي: من لا نصيبَ له في الجنَّة، وهو محمولٌ على التَّغليظ في النَّهي عن لبس الحرير، حتى قيلَ: إن هذا أغلظُ حديثٍ جاء في لبس الحرير، وإلا فالعاصي المؤمن لا بدَّ له من دخوله الجنَّة، ولو بعد حينٍ، أو لا نصيب له كاملٌ فيها، وقد خصَّ من عمومه النِّساء للأدلَّة المبيحة لهنَّ استعماله.
          (فَلَبِثَ) بكسر الموحدة (عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ) بفتح الموحدة، وهذا صادقٌ بطول المدَّة وقصرها (ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ) أي: إلى عُمر (رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ) أي: أخرى بإضافة جُبَّة لديباجٍ، أو بتنوينها، وجعل: ((ديباجٍ)) بياناً لها أو بدلاً، وهو بكسر الدال وقد تفتح، فارسيٌّ معرب: ديباه.
          (فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ) وقوله: (فَأَتَى) بفتح الفوقية؛ أي: عُمر (بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلعم) تفسيرٌ لسابقه (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ وَأَرْسَلْتَ إِلَيَّ) بتشديد التحتية (بِهَذِهِ الْجُبَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: تَبِيعُهَا) أي: أرسلتُها لك تبيعها لغيرك، أو لتلبسها لمن تحلُّ له (وَتُصِيْبُ بِهَا) أي: بثمنها (حَاجَتَكَ) وللكُشميهني: <أو تصيب... إلخ> فـ((أو)) إما بمعنى الواو، أو للتقسيم؛ أي: كإعطائها لبعض نسائِهِ، وكالمقايضَة بها، وتقدَّم الحديث في الجمعة في باب: يلبس أحسنَ ما يجد، وسيأتي أيضاً في كتاب اللباس.
          تنبيه: قال ابنُ رجبٍ: يجوز أن يراد بالعيد: جنسهُ، فيدخلُ فيه العيدان والجمعة، وقد دلَّ الحديثُ على التجمُّل للعيد مطلقاً، وأنه كان معتاداً بينهم، وتقدَّم حديثُ لبسهِ عليه الصلاة والسلام في العيدين بردهُ الأحمر، وإليه ذهب الأكثرُون، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأصحابنا وغيرهم.
          وأخرج البيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ _أي: وابن أبي الدنيا_ عن نافعٍ: أن ابن عمر كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه، ثمَّ قال: والمنصوصُ عن أحمد في المعتكف: أن يخرجَ إلى العيد في ثياب اعتكافه، وحكاهُ عن أبي قلابة، وأما غيرُ المعتكف، فالمنصوصُ عن أحمد: أنه يخيَّر بين التَّزيُّن وتركه، قال المروزيُّ: قلت لأحمدٍ: أيها أحبُّ إليك أن تخرجَ يوم العيد في ثيابٍ جيادٍ، أو ثيابٍ رثَّةٍ؟ قال: أما طاوس فكان يأمرُ بزينة الصِّبيان حتى يخضبوا، وأما عطاء فقال: لا، هو يوم تخشُّعٍ، فقلت لأحمد: فإلى ما تذهبُ؟ قال: قد رويَ هذا وهذا، وأستحسنهما جميعاً، انتهى.
          ثمَّ قال: ومما يتَّصلُ بذلك الغسل للعيدين، وقد نصَّ أحمدُ على استحبابهِ، وحكى ابن عبد البرِّ الإجماعَ عليه، وكان ابنُ عمر يفعله، وروى أيُّوب / عن نافعٍ قال: ما رأيت ابن عمر اغتسلَ للعيد، كان يبيت في المسجد ليلةَ الفطر، ثمَّ يغدو منه إذا صلَّى الصُّبح إلى المصلَّى.
          وقد يجمعُ بينهما: بأن ابنَ عمر كان إذا اعتكفَ بات ليلة الفطر في المسجد، ثمَّ يخرج إلى العيد على هيئة اعتكافه، كما قال أحمدُ ومن قبله من السَّلف، وهو قول مالكٍ أيضاً، وإن لم يكن معتكفاً اغتسلَ، وخرج إلى المصلَّى، وروي الغسلُ للعيد عن عليٍّ وابن عبَّاسٍ وسلمة بن الأكوع والسَّائب بن يزيد وغيرهم.
          وروى مالكٌ عن الزُّهري، عن عبيد بن السَّبَّاق: أن رسول الله صلعم قال في جمعةٍ من الجمع: ((يا معشَرَ المسلمينَ إنَّ هذا اليومَ جعلَهُ اللهُ عيداً فاغتَسِلُوا، ومن كان عندَهُ طِيبٌ فلا يضرُّهُ أن لا يمَسَّ منه، وعليكم بالسِّواكِ))، وهذا تنبيهٌ على أن ذلك مأمورٌ به في كلِّ عيدٍ للمسلمين.
          ثمَّ قال: والغسل للعيد غير واجبٍ، وحكى ابنُ عبد البرِّ الإجماعَ عليه، ولأصحابنا وجهٌ ضعيفٌ أنَّه واجبٌ، ثمَّ قال: ويستحب أيضاً التَّطيُّب والسِّواك في العيدين، انتهى مفرَّقاً.
          وقال العينيُّ: ومن فوائد الحديث: استحباب التَّجمُّل بالثِّياب في أيَّام الأعياد والجمع وملاقاة النَّاس، ولهذا لم ينكر الشَّارع إلا كونها حريراً، وهذا على خلاف بعضِ المتقشِّفين، وقد رويَ عن الحسن البصريِّ: أنه خرج يوماً وعليه حلَّةُ يمانٍ، وعلى فرقد جُبَّة صوفٍ، فجعل فرقدُ ينظرُ ويمسُّ حلة الحسن ويسبِّحُ، فقال: يا فرقدُ ثيابي ثياب أهل الجنَّةِ، وثيابك ثيابُ أهل النار _يعني: القسِّيسينَ والرهبان_ ثمَّ قال له: يا فرقدُ التَّقوى ليس في هذا الكساء، وإنما التَّقوى ما وقر في الصَّدر، وصدقه العمل.
          وفيه: استفهام الصَّحابة عند اختلاف القول والفعل، ليعلموا الوجه الذي يصرف إليه الأمر.
          وفيه: ائتلافُ الصَّحابة بالعطاء، وقبول العطيَّةِ إذا لم تجر عن مسألةٍ، وفضل الكفاف.
          وفيه: جوازُ بيع الحرير للرِّجال والنِّساءِ وهبته.