الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين

          ░25▒ (بَابٌ: إِذَا فَاتَهُ) أي: الشَّخصُ (الْعِيْدُ) أي: صلاتهُ مع الإمام (يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) جواب ((إذا)).
          قال الكرمانيُّ: الغرضُ منه: بيان عدم اشتراطِ الجماعة في صلاة العيدِ، وأنَّها عند الفوات ركعتان أيضاً لا أربعٌ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): في هذه التَّرجمة حُكمان: مشروعيَّةُ استدراك صلاة العيدِ إذا فاتت مع الجمَاعة اضطراراً، أو اختياراً، وكونها تُقضَى ركعتين كأصلها، وخالفَ في الأوَّلِ جماعةٌ، منهم: المزنيُّ فقال: لا تُقضَى، / وفي الثاني: الثَّوريُّ، وأحمد قالا: إن صلَّاها وحده صلَّى أربعاً، وسلفهما في ذلك ابن مسعودٍ، وقال إسحاق: إن صلَّاها في الجبَّانَةِ فركعتين، وإلَّا فأربعاً.
          قال الزين ابن المنيِّر: كأنَّهم قاسوها على الجمعة؛ لكنَّ الفرق ظاهرٌ؛ لأنَّ من فاتته الجمعة يعودُ لفرضه من الظُّهر بخلاف العيد، وقال أبو حنيفة: يتخيَّر بين القضاء والتَّرك، وبين الثنتين والأربع، انتهى.
          وأقول: مثل قول المزنيِّ، مذهب مالكٍ وأصحابِهُ، وكذا عند الحنفيَّةِ: إذا فاتت مع الإمام.
          قال في ((الملتقى)) و((شرحه)) للعلائيِّ، ولا تُقضى صلاة العيد مُنفرداً إذا فاتت مع الإمام؛ لأنَّها لم تعرَفْ قربةً بين العباد إلَّا بشرائط لا تتمُّ حالَ الانفراد، وإن منع عُذرٌ منها في اليوم الأوَّل، صلَّوها في الثاني لا بعدهُ، انتهى.
          ومثلهُ في كلام العينيِّ هنا، ثمَّ نقل عن قاضي خان: أنَّه إذا تركها بغير عذرٍ لا يقضيها أصلاً، وبُعذرٍ يقضيها في اليوم الثَّاني في وقتها، وبه قال الأوزاعيُّ والثَّوريُّ وأحمد وإسحاق، قال ابن المنذرِ: وبه أقولُ؛ فإن ترَكَها في اليوم الثَّاني بعذرٍ أو بغيره لا يُصلِّيها.
          ثمَّ قال العينيُّ: وقال السُّروجيُّ: وللشَّافعيِّ قولان: الأصحُّ قضاؤها؛ فإن أمكن جمعهم في يومهم صلَّى بهم، وإلَّا صلاها من الغدِ، وهو فرع قضاء النَّوافلِ عنده، وعلى القول الآخر: هي كالجمعة يشترطُ الجماعة، والأربعون، ودار الإقامة، وفعلهُ في الغد إن قلنا أداءً لا يصلِّيها في بقيَّة اليوم، وإلَّا صلاها في بقيَّتهِ، وهو الصَّحيح عندهم، وتأخيرها عنه لا يسقطُ أبداً، وقيل: إلى آخر الشَّهرِ الثَّاني، فقد قالت طائفةٌ: إذا فاتته صلاةُ العيد يُصلِّي ركعتين، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ، إلَّا أنَّ مالكاً استحبَّ له ذلك من غير إيجابٍ.
          وقال الأوزاعيُّ: يُصلِّي ركعتين، ولا يجهرُ بالقراءة، ولا يُكبِّر تكبيرَ الإمام، وقالت طائفةٌ: يُصلِّيها إن شاء أربعاً، ورويَ ذلك عن عليٍّ وابن مسعود، وبه قال الثَّوريُّ وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن شاء صلَّى، وإن شاء لم يُصلِّ، وإن شاء صلَّى أربعاً، وإن شاء ركعتين، انتهى.
          وما نقله العينيُّ عن السُّروجيِّ عن الشَّافعيِّ من قوله، لعلَّه في العدد، ولم أرَ هذا التَّفصيلَ، وكذا ما نقله عن أبي حنيفة من أنَّه يُخيَّر بين الأربع والثنتين، بل المعروفُ عندهم: فعل الثِّنتين فقط، ولعله قولٌ، فليُراجع، أو محمولٌ على أنَّ الأربع صلاة الضُّحى.
          قال في ((منية المفتي)): ومن لم يدرِكِ الإمامَ إن شاء رجع، وإن شاء صلَّى أربعاً صلاة الضُّحى، انتهى.
          وما نقلاهُ عن أحمد هو إحدى روايتين عنه.
          قال المرداويُّ في ((تنقيح المقنع)): وإن فاتته سنَّ قضاؤها قبل الزَّوالِ، وبعدهُ على صفاتها، وعنه: أربعٌ بلا تكبيرٍ بسلامٍ، وقال بعضهم: كالظُّهرِ، انتهى.
          تنبيه: لو حمل قول المصنِّف: ((إذا فاته العيد)) على فواتها مع الإمام، ولو كان الوقت باقياً، وعلى فواتها بخرُوجِها عن وقتها لكان أولى، ولعلَّهُ لهذا عبَّر بقوله: ((يُصلِّي ركعتين)) ليشملَ القضاء والأداء، وفي التَّعبيرِ بركعتين إشارةٌ أيضاً إلى الرَّدِّ على من قال: يُصلِّيها أربعاً، وقد علمته فاعرفهُ.
          (وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ) أي: اللاتي لم يحضرنَ الصَّلاةَ مع الإمام (وَمَنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ) معطوفٌ على ((النساء)) أي: ومن لم يحضُر مع الإمام لكونهِ في البيوت.
          قال في ((الفتح)): يُشِير إلى مخالفة ما رويَ عن عليٍّ: لا جُمُعة، ولا تشريقَ إلا في مصرٍ جامعٍ.
          (وَالْقُرَى) بضم القاف / عطفٌ على ((البيوت)) أي: فجميع هؤلاء يُصلُّون العيد، ولو منفردِين، وعن الإمام.
          (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم هَذَا) قال شيخُ الإسلام: ((هذا)) أي: ما ذُكِر من ركعتي العيد (عِيْدُنَا أَهْلَ الإِسْلَامِ) أي: لا كعيدِ غيرنا من أهل الجاهليَّةِ أو الكتاب، و((أهلَ)) نصبٌ على الاختصاص، أو بأعني، أو منادى بحذف ياء، ويؤيِّدهُ رواية أبي ذرٍّ في نسخةٍ عن الكُشميهنيِّ: <يا أهل الإسلام>.
          قال في ((الفتح)): وجوَّز فيه أبو البقاء في ((إعراب المسند)) الجرَّ على أنَّه بدلٌ من ضمير: ((عيدنا)).
          وظاهر صنيع البخاريِّ: أنَّه حديثٌ واحدٌ هكذا؛ لكن قال في ((الفتح)): هذا الحديثُ لم أرهُ هكذا، وإنما أوَّله في حديث عائشة في قصَّة المغنيتين، وتقدَّم في ثالثٍ ترجمة من كتاب العيدين بلفظ: ((إنَّ لكلِّ قوم عيداً وهذا عيدنا))، وأمَّا باقيه، فلعلَّهُ مأخوذٌ من حديث عُقبة بن عامرٍ مرفوعاً: ((أيَّام منَى عيدنا أهل الإسلام))، وهو في السُّنن، وصححه ابن خزيمةَ، وجزم بأنَّه من حديثين في ((المقدمة)).
          وقال العينيُّ: وأمَّا قوله: ((أهل الإسلام)) فقال بعضُ الشُّرَّاح: كأنَّه من البخاريِّ، انتهى.
          وقال شيخُ الإسلامِ _تبعاً للكرمانيِّ وغيره_ وجهُ مطابقة الحديثِ للتَّرجمةِ ما في لفظ: ((هذا)) من الإشارةِ إلى الرَّكعتين، وعمَّم بقوله: ((أهل الإسلام)) من كان مع الإمام، ومن لم يكُنْ معه من النِّساءِ، وأهل القرى وغيرهم.
          (وَأَمَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) ☺؛ أي: لمَّا فاتته صلاة العيد مع الإمام (مَوْلَاهُمُ) أي: مولى أنسٍ وأصحابه، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <مولاه> بالإفراد، كذا في القسطلاني.
          ونسبَ في ((الفتح)): <مولاهم> بالجمع لرواية المستملي.
          (ابْنَ أَبِي عُتْبَةَ) بنصب ((ابنَ)) بدلاً من مولى، أو عطف بيانٍ، وعُتْبة _بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية وبموحدة_ وهذه روايةُ الأكثر والرَّاجح، وهو ما في الفرع وأصله، ورواه أبو ذرٍّ كما في ((الفتح)): بغين معجمة مفتوحة ونون مكسورة فتحتية مثقلة (بِالزَّاوِيَةِ) بالزاي، موضعٌ على فرسخين من البصرة، كان فيها قصرٌ وأرضٌ لأنسٍ، وكان يقيمُ فيها كثيراً، وكان بالزَّاوية وقعةٌ عظيمةٌ بين الحجَّاج وابن الأشعث.
          (فَجَمَعَ) بتخفيف الميم (أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، وَصَلَّى) أي: بهم كصلاة العيد (كَصَلَاةِ أَهْلِ الْمِصْرِ) أي: ركعتين (وَتَكْبِيرِهِمْ) عطفٌ على صلاة على تقدير: وكبَّر كتكبيرهم في كونه في الرَّكعة الأولى سبعاً، وفي الثَّانية خمساً، على ما مرَّ تفصيله بما فيه من الخلاف.
          وهذا الأثرُ وصله ابن أبي شيبة عن ابن عليَّة عن يونس قال: حدَّثني بعض آل أنسِ بن مالكٍ أنَّ أنساً كان ربَّما جمع أهلهُ وحشمَه يوم العيد، فيُصلِّي بهم عبد الله بن أبي عتبة مولاهُ ركعتين، والمرادُ بالبعض المذكور: عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالكٍ.
          روى البيهقيُّ من طريقه عنه قال: كان أنسٌ إذا فاتته صلاةُ العيد مع الإمام جمعَ أهله فصلَّى بهم مثل صلاة الإمامِ في العيد، قال: ويذكر عن أنسٍ أنَّه كان إذا كان بمنزله بالزَّاوية، فلم يشهد العيد بالبصرة جمعَ مواليه وولدهُ، ثمَّ يأمر مولاه عبد الله بن أبي عتبة، فيُصلِّي بهم كصلاة أهل المِصْر ركعتين، ويكبِّرُ بهم كتكبيرهم، وبهذا الأثرِ قال مجاهدٌ ومحمَّد بن الحنفيَّة وإبراهيم التَّيمي وابن / سيرين، وحمَّاد، وأبو إسحاق السَّبيعي.
          (وَقَالَ عِكْرِمَةُ) أي: مولى ابن عبَّاسٍ (أَهْلُ السَّوَادِ) أي: القُرى (يَجْتَمِعُونَ فِي الْعِيدِ، يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ) أي: صلاة العيدِ (كَمَا يَصْنَعُ الإِمَامُ) ومفهومه: أنَّهم يكبِّرون فيها، وهذا التَّعليق وصلهُ ابن أبي شيبة أيضاً من طريق قتادةَ عنه بلفظ: قال في القوم يكونون في السَّواد، وفي السَّفر في يوم عيد فطرٍ أو أضحى، قال: يجتمعون فيصلُّون، ويؤمُّهم أحدهم.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) أي: ابن أبي رباح، وللكُشميهنيِّ: <وكان عطاء>.
          قال في ((الفتح)): والأوَّل أصحُّ، فقد رواه الفريابيُّ في ((مصنفه)) عن الثَّوريِّ، عن ابن جريجٍ عن عطاء قال: من فاته العيدُ فليصلِّ ركعتين، وأخرجهُ ابن أبي شيبة من وجهٍ آخر عن ابن جريجٍ، وزاد: ويكبِّر، وهذه الزيادة تشيرُ إلى أنَّها تقضى كهيئتها لا أنَّ الركعتين مطلق نفلٍ.
          (إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ) أي: صلاتهُ، وضمير ((فاته)) على روايةِ: ((وقال عطاء)): يعودُ إلى المصلِّي، وأما على رواية: <وكان عطاء> فيعودُ إلى عطاء، فافهم (صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) هذه الآثارُ ظاهرةٌ في دلالتها على التَّرجمة بشقَّيها.