الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الأكل يوم النحر

          ░5▒ (بَابُ الأَكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ) أي: استحبابُ تأخِيرهِ عن صلاة عيد النَّحر للمخالَفَةِ بين العيدين، وكأنه يُشيرُ لنحو حديث بريدةَ عند أحمدَ والتِّرمذيِّ، وابن ماجه بأسانيدٍ حسنةٍ، وصححه الحاكم، وابن حبَّان قال: ((كان رسُول الله صلعم لا يخرُجُ يوم الفطر حتى يطعمَ، ولا يطعمُ يوم النَّحرِ حتى يرجِعَ فيأكُلَ من نسِيكَتهِ)).
          لكن قال في ((الفتح)): وأما ما وردَ في الترمذيِّ والحاكم من حديث بُريدة قال: ((كان النبيُّ صلعم لا يخرُجُ يوم الفِطْرِ حتى يطْعَمَ، ولا يطْعَمُ يوم الأضحى حتَّى يصلِّي)) ونحوه عند البزَّارِ عن جابرِ بن سمرة، وروى الطبرانيُّ، والدارقطنيُّ من حديث ابن عباسٍ: قال: من السُّنَّة أن لا يخرج يوم الفطر حتى يخرجَ الصَّدقةَ، ويطعم شيئاً قبل أن يخرج، ففي كلٍّ من الأسانيد الثَّلاثة مقالٌ، انتهى.
          وأقول: تقدَّم أنَّ أسانيد الأوَّل حسنةٌ، بل صححه الحاكم وابن حبَّان، فلعلَّ في ذلك اختلافاً، والبخاريُّ إذا لم يكُنِ الحديثُ على شرطه يشيرُ إليه بالترجمة، فتدبَّر.
          وقال في ((الفتح)) أيضاً نقلاً عن الزَّين ابن المنيِّر: لم يقيِّدِ المصنفُ الأكل يوم النَّحر بوقتٍ معيَّنٍ، كما قيدهُ في الفطر، ووجهُهُ من حديث أنسٍ قول الرَّجل: إنَّ هذا يومٌ يُشتَهى فيه اللَّحمُ، وقوله في حديث البراءِ: إن اليوم يومُ أكلٍ وشربٍ، ولم يقيِّدا ذلك بوقتٍ، انتهى.
          وأقول: ما ذكرهُ وإن كان مطلقاً؛ لكن في إنكار النَّبيِّ صلعم على من ذبح قبل الصلاة وأكلَ إشعارٌ ما بأنَّه لا ينبغي له أن يتأخَّرَ عن الصلاةِ، ويتشاغَلَ بنحو أكلٍ، فلعلَّ المصنِّفَ أشار / إلى ما ذكرَ، فتقيَّدُ الترجمةُ به، فتأمَّل.
          وأمَّا قوله في ((الفتح)) أيضاً: ولعلَّ المصنِّفَ أشار إلى تضعيفِ ما ورد في بعض طرق الحديث الذي قبلهُ من مغايرة يوم الفطر ليوم النَّحر من استحبابِ البداءَةِ بالصلاةِ يوم النَّحر قبل الأكل؛ لأنَّ في حديث البَراءِ أن أبا بردة أكل قبل الصَّلاة يوم النَّحر، فبيَّن له عليه الصَّلاة والسلام أنَّ التي ذبحها لا تجزئُ عن الأضحية، وأقرَّهُ على الأكل منها، انتهى.
          ومثلهُ في ابن رجب، وزاد: فدلَّ على جواز الأكل يوم النَّحر قبل الخُرُوج إلى الصلاة، وهذا إنَّما يدلُّ على جواز الأكل لا على استحبابِهِ، ولا على أنَّ تركه أولى، وهو قول مالكٍ، ونقل عن أحمد ما يشبهُهُ، والجمهورُ: على أنَّ تأخير الأكل يوم النَّحر إلى ما بعد الصلاة أفضلُ، وهو قول ابن المسيب، انتهى.
          لكنَّه قال قبل ذلك: وذكر بعضهم مَعنًى آخر، وهو أن يوم الفطر قبل الصَّلاة تشرَعُ الصَّدقةُ على المساكين بما يأكلونَهُ خصُوصاً التَّمر، فشرع له أن يأكُل معهم ويشاركَهُم، وفي النَّحر: لا تكون الصدقة على المساكين إلَّا بعد الرُّجوعِ من الصَّلاة، فيؤخَّرُ الأكل إلى وقت الصَّدقةِ عليهم ليشاركهم أيضاً، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): واختار بعضهم تفصيلاً آخرَ فقال: من كان له ذبحٌ استحبَّ أن يبدأ بالأكل منه، ومن لم يكُنْ له ذبحٌ تخيَّر، والأولى إذا ضحَّى أن يأكل من كبد أضحيَتِه؛ لأنَّه أسرعُ نضجاً.
          وقال ابن رجبٍ: ويشبه هذا أنَّ أول طعامٍ يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوتِ يأكُل منها سبعون ألفاً، ولعلَّهم الذين يدخلون الجنَّةَ بغير حسابٍ لسبقهم في الدُّخول إلى الجنةِ، انتهى.
          وقوله أولاً: فدلَّ على جواز الأكل... إلخ يقالُ عليه: جوازُهُ لا خلاف فيه، إنَّما الخلاف في الأفضل، فتأمَّل.