الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة

          ░12▒ (بَابُ التَّكْبِيرِ) بتقديم / الكاف على الموحدة (أَيَّامَ مِنًى) هي يوم العيدِ، والثَّلاثة بعده (وَإِذَا غَدَا) الظَّرف معطوفٌ على ((أيام)) أي: وباب التَّكبير إذا غدا صبيحة التاسعِ (إِلَى عَرَفَةَ) أي: للوُقُوف بها.
          قال الخطابيُّ: حكمةُ التكبير في هذه الأيام: أنَّ الجاهليَّة كانوا يذبحون لطواغيتهم فيها، فشرع التَّكبير فيها إشارةً إلى تخصيص الذَّبح له، وعلى اسمه تعالى.
          (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب (☻) كذا لأبي ذرٍّ مما في فرع ((اليونينية))، والذي رواهُ غيره: <وكان عمر> أي: ابن الخطاب، وعليها اقتصرَ في ((الفتح)).
          وأقول: يمكنُ الجمع، ويكون ابن عمر يكبِّر مع والده عمر في قبَّته أو مُنفَرداً عنه، فافهم.
          (يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ) بضم القاف وتشديد الموحدة، بيتٌ صغيرٌ من الخيام مستدِيرٌ من بُيُوت العرب (بِمِنًى) أي: في أيَّامها (فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ) أي: مسجد الخيْف (فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ) أي: بتكبيره (حَتَّى تَرْتَجَّ) بفتح الفوقيتين وتشديد الجيم؛ أي: تضطربَ وتتحرَّك (مِنًى) بكسر الميم بالصرف وعدمه؛ أي: أهلُها، مبالغةً في اجتماع رفع الصوت (تَكْبِيراً) مفعول مطلق ليكبِّرون، أو لـ((يكبر))، أو نصبٌ على التمييز، أو المفعول لأجله، وهذا التَّعليقُ وصله سعيد بن منصور عن عبيد بن عمير قال: كان ابن عُمر يكبِّر في قبَّته بمنًى، ويكبِّرُ أهل المسجد، ويكبِّرُ أهل السُّوق حتى ترتجَّ منًى تكبيراً.
          (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب ☻ (يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأَيَّامَ) أي: أيَّام منى (وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ) ظاهرهُ: المفرُوضَات، ويحتملُ الأعم (وَعَلَى فِرَاشِهِ) بكسر الفاء مفرداً، وللحمويِّ والمستمليِّ: <وعلى فُرُشه> بضم الفاء والراء، جمع: فراشٍ (وَفِي فُسْطَاطِهِ) بضم الفاء وقد تكسر، ويجوزُ فيه مع ذينك أن تبدَّل الطاء الأولى مثناة فوقية بالفك، وبإدغام السين فيها بعد قلبها سيناً، فهذه ستُّ لغاتٍ، وهو بيتٌ من الشَّعر قاله الكرمانيُّ.
          وقال الزمخشريُّ: ضربٌ من الأبنية في السَّفر دون السَّرادقِ، ويقال: للخيمة الكبيرة.
          (وَمَجْلِسِهِ) بكسر اللام وفتحها (وَمَمْشَاهُ) أي: في مكانِ مشيه، وجوَّز العيني أن يكون مصدراً ميميًّا بمعنى: المشيِ (تِلْكَ الأَيَّامَ) أي: فيها، فهي ظرفٌ للمذكورات، ويروى: <وتلك> بالواو لغير أبي ذرٍّ، وكرَّر: ((تلك الأيام)) للتَّأكيد، وأكَّد ذلك أيضاً بقوله: (جَمِيعاً) وهذا التَّعليقُ وصله ابن المنذر، والفاكهيُّ في ((أخبار مكة)) عن نافعٍ: أنَّ ابن عمر، فذكره سواء.
          (وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ) أي: بنت الحارثِ ♦ إحدى أمَّهات المؤمنين ماتت بسَرِف حيث بنى بها النَّبيُّ صلعم بين مكَّة والمدينةَ سنة إحدى وخمسين (تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ) هذا صادقٌ بكون ذلك في المسجد، أو في بيتها.
          قال في ((الفتح)): ولم أقفْ عليه موصولاً؛ لكن قال العينيُّ: روى البيهقيُّ أيضاً تكبيرَ ميمونة يوم النَّحر.
          (وَكُنَّ) بتشديد النون على لغةِ: أكلوني البراغيث؛ لإسنادهِ إلى قوله: (النِّسَاءُ) ولأبي ذرٍّ: <وكان النساء> (يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ) كزمان (ابْنِ عُثْمَانَ) أي: ابن عفَّان، كان مجتهداً، مات بالمدينة سنة خمس ومائة، وكان أمير المدينةِ زمن ابن عمِّ أبيه عبد الملك (وَعُمَرَ) أي: وخلفَ عمر (ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزَ) ☻ (لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ، مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ) وهذا التَّعليقُ وصله أبو بكر بن أبي الدُّنيا في كتاب ((العيدين))، وحديث أمِّ عطيَّة الآتي آخرَ الباب سلفهنَّ في ذلك، وهذه الآثارُ المعلَّقةُ قد دلَّت على وجود التَّكبير في تلك الأيَّام عقب الصَّلوات، وغيرُ ذلك من الأحوال، فجميعها مناسبٌ لصدر التَّرجمةِ / .
          وفيه اختلافٌ للعلماء، فمنهم من خصَّ التكبير بأعقاب الصلوات مطلقاً كالشافعيَّةِ، ومنهم من خصَّه بالمكتوبات دون النَّوافل كالحنفيَّةِ، ومنهم من عكس، ومنهم من خصَّهُ بالرِّجالِ دون النِّساءِ، ومنهم بالجماعة دون المنفرد، ومنهم بالمؤدَّاةِ دون المقضيَّةِ، ومنهم من عمَّم فيهما، ومنهم بالمقيم دون المسافر، ومنهم بساكنِ المِصْر دون القرية، وظاهرُ اختيار البخاريِّ: شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعدهُ، قاله في ((الفتح)).
          ثمَّ قال: ولم يثبت في شيءٍ من ذلك عن النبيِّ صلعم حديثٌ، وأصحُّ ما وردَ فيه عن الصحابة قول عليٍّ وابن مسعودٍ أنَّه من صبح يوم عرفةَ إلى آخر أيام منى، أخرجهُمَا ابن المنذر وغيره، انتهى.
          قال العينيُّ: تكبير التَّشريق، واجبٌ عند أصحابنا؛ ولكن عند أبي حنيفة: عقب الصَّلواتِ المفروضة على المقيمين في الأمصار في الجماعة المستحبَّة، فلا يكبِّرُ عقب الوِتْر وصلاة العيد والسُّنن والنَّوافل، وليس على المسافرين، ولا على المنفردِ، وهو مذهبُ ابن مسعودٍ، وبه قال الثوريُّ، وهو المشهورُ عن أحمد، وقال أبو يوسف ومحمد: على كلِّ من صلَّى المكتوبة سواءٌ كان مقيماً أو مسافراً، أو منفرداً أو بجماعةٍ، وبه قال الأوزاعيُّ ومالك، وليس على جماعة النِّساء إذا لم يكنْ معهنَّ رجلٌ، ولا على المسافرين إذا لم يكن معهم مقيمٌ، وعند الشافعيِّ: يكبِّرُ عقب النَّوافل حتى الجنازة على الأصحِّ كما مر، انتهى ملخَّصاً.
          ثم قال: اختُلِف في وقت التكبير، فعند أصحابنا: يبدأ بعد صلاة الفجر يوم عرفة، ويختمُ عقب العصر يوم النَّحر عند أبي حنيفة، وهو قول ابن مسعودٍ، وعلقمة، والأسود، والنخعيِّ، وعند أبي يوسف، ومحمد: يختمُ عقب صلاة العصر آخر أيام التَّشريق، وهو قول عمر، وكذا أبي بكر، وعليٍّ، وعثمان في رأيٍ، وابن عبَّاس ♥، وبه قال الثوريُّ وابن عُيينة، وأبو ثور، وأحمد، والشافعيُّ في قولٍ، انتهى.
          وأقول: ما ذكرهُ عن الشافعيِّ قولاً، وهو الرَّاجحُ عنده في غير الحاجِّ، أمَّا هو فابتداؤه من ظهر يوم النَّحر، وآخرهُ كغيره.
          تنبيه: للعلماء اختلافٌ أيضاً في ابتدائه وانتهائهِ، فقيل في ابتدائه: من صُبْح يوم عرفة، وقيل: من ظُهْره، وقيل: من عصره، وقيل: من صبح يوم النَّحر، وقيل: من ظهره، وقيل في الانتهاء: إلى ظُهر يوم النَّحر، وقيل: إلى عصره، وقيل: إلى ظهر ثانيه، أو إلى صبح آخر أيام التشريق، أو إلى ظهره، وقيل: إلى عصرهِ؛ فإذا ضَربتَ خمسةً في ستَّةٍ تبلغُ ثلاثين، وإذا ضربتَ فيها ما تقدَّم من التِّسعة السَّابقةِ بلغت مائتين وسبعين صورةً؛ لكن إذا أسقطتَ المكرَّر منها نقُصَت عن ذلك.
          وقد ذكرها القسطلانيُّ تبعاً للبرماويِّ والكرمانيِّ بزيادةٍ عليهما، وهي تزيدُ على ما ذكرنا أيضاً؛ فإنَّه جعلها أوَّلاً تبعاً لهما ستة وسبعين، ثمَّ زاد على ذلك أربع صورٍ؛ فإذا ضربت في ستَّةٍ وسبعين بلغت ثلاثمائةٍ وأربعين، فاعرفه.
          وقال العينيُّ: وهاهنا تسعةُ أقوالٍ، وقد ذكرنا قولين:
          الثالث: يختمُ بعد ظهر يوم النَّحر، ورويَ أيضاً عن ابن مسعودٍ، فعليه: يكبِّر في سبع صلواتٍ، وعلى قوله الأوَّل: في ثمان صلوات، وعلى قولهما: في ثلاثٍ وعشرينَ صلاة.
          الرَّابع: يكبِّر من ظُهر يوم النَّحر ويختمُ في صُبْح آخر أيام التشريق، وهو قول مالكٍ / والشافعيِّ في المشهور، ويحيى الأنصاريِّ، ورويَ ذلك عن ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وهو روايةٌ عن أبي يوسف.
          الخامس: من ظُهْر عرفةَ إلى عصرِ آخر أيام التِّشريق، حكيَ ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن جُبير.
          السادس: يبدأُ من ظهر يوم النَّحرِ إلى ظُهر يوم النَّفر الأوَّل، وهو قول بعض أهل العلم.
          والسَّابع: حكاهُ ابن المنذرِ عن ابن عيينة، واستحسنهُ أحمد: أنَّ أهل منى يبدؤون من ظُهْر يوم النَّحر، وأهل الأمصار من صُبْح يوم عرفة، وإليه مالَ أبو ثور.
          والثَّامن: من ظُهْر عرفة إلى ظهر يوم النَّحر، حكاهُ ابن المنذر.
          التَّاسع: من مغرب ليلة النَّحر عند بعضهم، قاله قاضي خان، انتهى.
          وجميعُ هذا في التكبير المقيَّد بكونه عقب الصَّلوات، أمَّا المطلقُ فيدخل بغروب الشمسِ ليلتي العيد لغير الحاجِّ، أما هو فيُلبِّي، ويستمرُّ طلبه أيَّ وقتٍ كان إلى أن يدخل الإمام في الصلاة، ويرفعُ صوته به، ولو في طريقهِ، وذهابه إلى المصلَّى، وهذا مذهبُ الأئمَّة سوى الإمام أبي حنيفة؛ فإنَّه قال كما قال العينيُّ: لا يُكبِّر يوم الفطر، وقال الطَّحاويُّ: ومن كبَّر يوم الفطر تأوَّل فيه قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:198]، وتأوَّل ذلك زيدُ بن أسلمٍ، ويجعل ذلك تعظيم الله تعالى بالأفعال والأقوالُ كقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111]، والقياسُ: أن يُكبِّر في العيدين جميعاً؛ لأنَّ صلاتي العيدين لا يختلفان في التَّكبير فيهما، والخُطبةُ بعدهما، وسائر سننهما كذلك التَّكبير في الخروج إليهما، انتهى.
          قال في ((فتح الباري)): وأما صفةُ التَّكبير، فأصحُّ ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرَّزاق بسندٍ صحيحٍ عن سلمان قال: كبِّروا الله: اللهُ أكبر اللهُ أكبر اللهُ أكبر كبيراً، ونقل عن سعيد بن جُبَيرٍ ومجاهد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو قول الشافعيِّ، وزاد: ولله الحمد، وقيل: يكبِّر ثلاثاً، ويزيدُ: لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له... إلخ، وقيل: يكبِّر ثنتين بعدهما: لا إله إلا الله، واللهُ أكبر، ولله الحمد، جاءَ ذلك عن عمر وعن ابن مسعودٍ نحوه، وبه قال أحمد وإسحاق، وقد أحدثَ في هذا الزمان زيادةٌ في ذلك لا أصل لها، انتهى.
          وأقول: ما ذكرهُ من القيلِ هو المرجَّحُ عند الشافعيَّةِ؛ فإنَّ صيغته الفاضلة عندهم كما في ((المنهاج)) و((التحفة))، وغيرهما: الله أكبرُ، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلَّا اللهُ، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، يقول: ذلك ثلاثاً، ثمَّ بعد الثالثة يستحبُّ أن يزيدَ: الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، لا إله إلَّا الله، ولا نعبُدُ إلَّا إياهُ مُخلِصين له الدِّينَ ولو كرهَ الكافرون، لا إله إلَّا الله وحدَهُ، صدقَ وعدهُ، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده لا إله إلَّا الله، واللهُ أكبر.
          وأمَّا عند الحنفيَّة وغيرهم فقال العينيُّ: يقول مرَّةً واحدةً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلَّا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وهو قولُ عمر بن الخطاب وابن مسعودٍ، وبه قال الثوريُّ وأحمد وإسحاق، وفيه أقوالٌ أُخَر:
          الأوَّل: قول الشافعيِّ، أنه يُكبِّر ثلاثاً نسقاً، وهو قول ابن جُبير.
          الثاني: قول مالكٍ، أنَّه يقف على الثَّانية، ثمَّ يقطع فيقول: الله أكبر، لا إله إلا الله، حكاه الثعلبيُّ عنه.
          الثَّالث: عن ابن عبَّاسٍ: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر، ولله الحمد.
          الرابع: هو: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، وحدهُ لا شريك له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، وهو مرويٌّ عن ابن عمر.
          الخامس: عن ابن عبَّاسٍ أيضاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا هو الحيُّ القيُّوم، يحيي ويميتُ، / وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
          السَّادس: عن عبد الرحمن: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الحمدُ لله، ذكره في ((المحلي)).
          السَّابع: أنَّه ليس فيه شيءٌ مؤقَّت، قاله الحكم وحمَّاد، وقولُ أصحابنا أولى؛ لأنَّ عليه جماعة من الصَّحابة والتَّابعين، انتهى.
          لطيفة: قال في ((المختار)): والأصلُ في التَّكبير: ما رويَ في قصَّة الذَّبيح: أنَّ الخليل عليه الصلاة والسلام لما أخذ في مقدِّمات الذبح جاء جبريلُ عليه الصلاة والسلام بالفداءِ، فلمَّا انتهى إلى سماء الدُّنيا خاف عليه العجلة فقال: الله أكبر، الله أكبر، فسمعهُ إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام، فرفع رأسهُ، فلمَّا علم أنَّه جاء بالفداءِ قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، فسمع الذَّبيح فقال: الله أكبرُ، ولله الحمدُ، فصار سُنَّةً إلى يوم القيامة.