نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة

          ░19▒ (بابٌ) بالتنوين (لاَ يُفَرِّقُ) من التَّفريق، و«لا» ناهية أو نافية، والفعل مبنيٌّ للفاعل؛ أي: لا يفرِّق الدَّاخل في المسجد (بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) ويروى مبنياً للمفعول أيضاً، واختلفوا في معنى التَّفرقة بين اثنين، فقيل: هو أن يتخطَّى بين رجلين، وقيل: هو أن يزحزحَ رَجُلَين عن مكانهما ويجلس بينهما، والأشبه هو الأوَّل؛ لأنَّ / الثاني سيأتي في الباب التَّالي إن شاء الله تعالى [خ¦911].
          وفي «الموطأ»: عن أبي هريرة ☺: ((لَأَن يصلِّي أحدُكم بظهر الحرَّة خيرٌ له من أن يقعدَ حتى إذا قام الإمام جاء يتخطَّى رقابَ الناس)) ومعناه: أنَّ المأثم في التخطِّي أكثر من المأثم في التخلُّف عن الجمعة، كذا تأوَّله القاضي أبو الوليد.
          وتأوَّله أبو عبد الملك: أنَّ صلاته بالحرَّة وهي حجارةٌ سود بموضعٍ يبعد عن المسجد خير له. ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: «لَأَن أصلِّي بالحرة أحبُّ إليَّ من أن أتخطَّى رقاب النَّاس يوم الجمعة». وعن سعيد بن المسيب مثله.
          وقال كعب: «لَأَن أدع الجمعة أحبُّ إليَّ من أن أتخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة». وهو قول عطاء والثوري وأحمد.
          وقد ورد في هذا الباب أحاديث:
          منها: ما رواه الترمذي من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال: قال رسول الله صلعم : ((من تخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة اتُّخِذ جسراً إلى جهنَّم)) وقال: حديث سهل بن معاذ عن أبيه حديث غريبٌ.
          قال الشَّيخ العراقي في «شرح الترمذي»: المشهور «اتُّخِذ» على بناء المجهول؛ يعني: يجعل جسراً على طريق جهنَّم ليوطأ ويتخطَّى كما تخطَّى رقاب الناس، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، ويحتمل أن يكون على بناء الفاعل؛ أي: اتَّخذ لنفسه جسراً يمشي عليه إلى جهنَّم بسبب ذلك.
          ومنها: حديث جابر بن عبد الله ☺: أنَّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلعم يخطب فجعل يتخطَّى الناس، فقال رسول الله صلعم : ((اجلسْ فقد أذيت وآنيت)) أي: أخَّرت المجيء وأبطأت، أخرجه ابن ماجه، وفي «مسنده» إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف.
          ومنها: حديث عبد الله بن بُسر رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد من رواية أبي الزاهريَّة واسمه حُدَير بن كُريب قال: كنَّا مع عبد الله بن بُسر صاحب النبيِّ صلعم يوم الجمعة فجاء رجلٌ فتخطَّى رقابَ النَّاس، فقال: جاء رجلٌ فتخطَّى رقاب النَّاس والنبيُّ صلعم يخطبُ قال له النبيُّ صلعم : ((اجلسْ فقد أذيتَ)).
          ومنها: حديث عبد الله بن عَمرو رواه أبو داود بإسناد حسنٍ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص ☺ عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة... إلى آخره)) وفيه: ((ومن لغى وتخطَّى رقاب النَّاس كانت له ظهراً)) يعني: لا تكون له كفَّارةٌ لما بينهما.
          ومنها: حديث الأرقم أخرجه أحمد في «مسنده» عن النبيِّ صلعم / أنَّه قال: ((إنَّ الذي يتخطَّى رقاب الناس ويفرِّق بين اثنين بعد خروج الإمام كالجارِّ قُصْبه في النار)) رواه الطبرانيُّ أيضاً في «الجامع الكبير» وفي سنده هشام بن زياد ضعَّفه أحمد وأبو داود والنسائي.
          ومنها: حديث عثمان بن الأزرق أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» ولفظه: ((من تخطَّى رقاب النَّاس بعد خروج الإمام أو فرَّق بين اثنين كان كالجارِّ قصبه في النار)).
          وقال الذهبيُّ: عثمان بن الأزرق له صحبةٌ، والقُصْب _ بضم القاف _ الأمعاء، وجمعه أقصاب، وقيل: القُصب اسمٌ للأمعاء كلِّها، وقيل: هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء.
          ومنها: حديث أبي الدَّرداء ☺ أخرجه الطبرانيُّ في «الأوسط» قال: قال رسول الله صلعم : ((لا تأكل متكئاً ولا تتخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة)) وفي سنده عبد الله بن رُزَيق.
          ومنها: حديث أنس ☺ أخرجه الطبرانيُّ أيضاً قال: بينما النبيُّ صلعم يخطب إذ جاء رجلٌ فتخطَّى رقاب النَّاس... الحديث، وفيه: ((رأيتك تخطَّى رقاب النَّاس وتؤذيهم، من آذى مسلماً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ╡)).
          وقال صاحب «التوضيح»: قد اختلف العلماء في التَّخطي فمذهبٌ أنَّه مكروه إلَّا أن يكون قدَّامه فرجة لا يَصِلها إلَّا بالتَّخطِّي فلا يكره حينئذٍ، وبه قال الأوزاعيُّ وآخرون.
          وقال ابن المنذر: رُوِيَ كراهته عن سلمان الفارسيِّ وأبي هريرة وكعب وسعيد بن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل، وعن مالك: كراهته إذا جلس الإمام على المنبر ولا بأس به قبله، وقال قتادة: يتخطَّاهم إلى مجلسه.
          وقال الأوزاعيُّ: يتخطَّاهم إلى السِّعة، وهذا يشبه قول الحسن قال: لا بأس بالتَّخطِّي إذا كان في المسجد سعة، وقال أبو بصرة: يتخطَّاهم بإذنهم.
          وقال ابنُ المنذر: لا يجوز شيءٌ من ذلك عندي؛ لأنَّ الأذى يحرم قليله وكثيره، قال صاحب «التوضيح»: وهو المختار، وعند أصحابنا الحنفيَّة: لا بأس بالتَّخطِّي والدنوِّ من الإمام إذا لم يؤذِ النَّاس، وقيل: لا بأس به إذا لم يأخذ الإمام في الخطبة ويُكره إن أخذ.
          وقال الحلوانيُّ: الصَّحيح أنَّ الدنوَّ من الإمام أفضل لا التَّباعد عنه، ثمَّ تقييد التَّخطي بالكراهة يوم الجمعة هو المذكور في الأحاديث.
          وكذا قيَّده الترمذيُّ في حكايته عن أهل العلم، وكذلك قيَّده الشَّافعية في كتب فقههم في أبواب الجمعة، وكذا هو عبارة الشافعيِّ في «الأم»: وأكره تخطِّي رقاب الناس يوم الجمعة لما فيه من الأذى وسوء الأدب، انتهى.
          لكن هذا التَّعليل يشمل يوم الجمعة وغيره في المساجد وسائر المجامع من حِلَقِ العلم، وسماع / الحديث، ومجالس الوعظ، وعلى هذا يحملُ التَّقييد يوم الجمعة على أنَّه خرجَ مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بمكان الخطبة وكثرة النَّاس، بخلاف، غيره.
          ويؤيِّد ذلك ما رواه أبو منصور الدَّيلمي في «مسند الفردوس» من حديث أبي أُمامة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((من تخطَّى حلقةَ قومٍ بغير إذنهم فهو عاصٍ)) ولكنَّه ضعيفٌ؛ لأنَّه من رواية جعفر بن الزبير فإنَّه كذَّبه شعبة وتركه النَّاس.
          ثمَّ اختلفوا في كراهة ذلك هل هو للتَّحريم أو لا؟ فالمتقدِّمون يطلقون الكراهة ويريدون كراهة التَّحريم، وحكى الشَّيخ أبو حامد في «تعليقه» عن نصِّ الشافعيِّ التَّصريح بتحريمه.
          وحكى الرافعيُّ في الشهادات عن صاحب «العدة» أنَّه عدَّه من الصَّغائر، ونازعه الرَّافعي وقال: إنَّه من المكروهات، وصرَّح النوويُّ في «شرح المهذب» بأنَّه مكروه كراهة تنزيهٍ.
          وقال في «زوائد الرَّوضة»: إنَّ المختار تحريمه للأحاديث الصَّحيحة، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط، وقال «شارح الترمذي»: ويستثنى من التَّحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فُرْجة لا يصل إليها إلَّا بالتَّخطي، وأطلق النوويُّ في «الروضة» استثناء الإمام، ومَنْ بين يديه فرجةٌ، ولم يقيِّد الإمام بالضَّرورة ولا الفرجة بكون التخطِّي إليها يزيد على صفين.
          وقيَّد ذلك في «شرح المهذب» فقال: فإن كان إماماً لم يجد طريقاً إلى المنبر والمحراب إلَّا بالتخطِّي لم يُكره لأنَّه ضرورة. وفي «الأم»: فإن كان الزِّحام دون الإمام لم أكره له من التَّخطِّي ما أكرهه للمأموم؛ لأنَّه مضطرٌّ إلى أن يمضي إلى الخطبة.
          وقال في «الأم» أيضاً: فإن كان دون مدخل الرَّجل زحام، أو أَمامه فرجة وكان تخطِّيه إليها بواحدٍ أو اثنين رجوت أن يسعَه التخطِّي.
          ونقل النوويُّ عن الشافعيِّ أنَّه إذا وصل إليها بتخطِّي واحدٍ أو اثنين فلا بأس به فإن كانَ أكثر من ذلك كرهتُ له أن يتخطَّى. ثمَّ لا فرق في كراهة التخطِّي أو تحريمه بين أن يكونَ المتخطِّي من ذوي الحشمة أو رجلاً صالحاً أو ليس فيه وصف منهما.
          ونقل صاحب «البيان» عن القفَّال أنَّه لو كان محتشماً أو محترماً لم يكره التخطِّي، قال العينيُّ: هذا ليس بشيءٍ والأصل عدم التَّخصيص.
          وقال المتولِّي من الشافعيَّة: إذا كان له موضعٌ يألفه وهو معظَّمٌ في نفوس النَّاس لا يكره له التخطِّي، انتهى وفيه نظرٌ.