نجاح القاري لصحيح البخاري

باب المشي إلى الجمعة

          ░18▒ (بابُ الْمَشْي إِلَى) صلاة (الْجُمُعَةِ، وَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ) بالجرِّ عطفاً على «المشي» ({فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}) أي: فامضوا لقراءة ابن عمر وابن مسعودٍ ♥ : ▬فامضوا إلى ذكر الله↨، قالا: ولو قرأناها: {فَاسْعَوْا} لسعينا حتَّى يسقطَ رداؤنا.
          وقال عمر ☺ لأُبيِّ بن كعبٍ ☺ وقرأ: {فَاسْعَوْا} لا تزال تقرأ المنسوخ كذا ذكره ابن الأثير، وفي «تفسير عبد بن حُميد» قيل لعمر ☺: إنَّ أبيًّا يقرأ {فَاسْعَوْا}: ▬فامشوا↨، فقال عمر ☺: أُبيٌّ ☺ أعلمنا بالمنسوخ.
          وفي «المعاني» للزَّجاج: وقرأ أُبيٌّ وابن مسعود ☻ : ▬فامضوا↨، وكذا ابن الزُّبير فيما ذكره ابن التِّين، ومنهم من قال معناه: فاقصدوا.
          وفي «تفسير أبي القاسم الجوزي»: {فَاسْعَوْا} [الجمعة:9]؛ أي: فاقصدوا إلى صلاة الجمعة، ومنهم من قال: معناه: فامشوا، كما ذكرنا عن أُبيٍّ ☺. وقال ابن التِّين: ولم يذكر أحدٌ من المفسِّرين أنَّه الجري، انتهى.
          وسيأتي في الحديث الآتي في هذا الباب: ((فلا تأتوها تسعونَ وأتوها وأنتُم تمشون وعليكُم السَّكينة)) [خ¦908]، نعم إذا ضاق الوقت فالأولى الإسراع، وقال المحبُّ الطبريُّ: يجب إذا لم يُدرك الجمعة إلَّا به.
          (وَمَنْ قَالَ) عطف على مدخول الباب أيضاً؛ أي: وبابُ مَنْ قال في تفسيره (السَّعْيُ: الْعَمَلُ) أي: لها (وَالذَّهَابُ) أي: إليها (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَعَى لَهَا}[الإسراء:19]) أي: عمل للآخرة ({سَعْيَهَا} [الإسراء:19]) اللائق لها، وهو الإتيان بالأوامر والانتهاء عن النَّواهي، لكن باللام لا يأتي إلَّا إذا فسِّر بالعمل، وأمَّا إذا فسِّر بالذَّهاب فلا يأتي إلَّا بـ «إلى» كذا قيل، وقال الكرمانيُّ: لا تفاوت بينهما إلا بإرادة الاختصاص والانتهاء.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ) أي: حين نودي للصَّلاة، وهذا التَّعليق وصله ابن حزمٍ من طريق عكرمة عن ابن عبَّاسٍ ☻ بلفظ: «لا يصلح البيع / يوم الجمعة حين ينادى للصَّلاة فإذا قضيت الصَّلاة فانتشر وبعْ».
          وقال الزَّجاج: البيع من وقت الزَّوال من يوم الجمعة إلى انقضاء الصَّلاة كالحرام، وقال الفراء: إذا أذَّن المؤذِّن حَرُمَ البيع والشِّراء؛ لأنَّه إذا أُمر بترك البيع فقد أُمر بترك الشِّراء، ولأنَّ المشتري والبائع يقعُ عليهما البيعان.
          وفي «تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشَّاميِّ»: عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابرٍ قال: قال رسول الله صلعم : ((تحرم التِّجارة عند الأذان ويحرمُ الكلام عند الخطبة، ويحلُّ الكلام بعد الخطبة، وتحلُّ التِّجارة بعد الصَّلاة)).
          وعن قتادة: إذا نودي للصَّلاة من يوم الجمعة حَرُمَ البيعُ والشِّراء، وقال الضَّحاك: إذا زالت الشَّمس، وعن عطاء والحسن مثله، وعن أيُّوب: لأهل المدينة ساعة يوم الجمعة يُنَادون حَرُم البيع، وذلك عند خروج الإمام.
          وفي «المصنَّف» عن مسلم بن يسار: إذا علمت أنَّ النَّهار قد انتصف يوم الجمعة فلا تتبايعنَّ شيئاً، وعن مجاهد: من باع شيئاً بعد زوال الشَّمس يوم الجمعة فإنَّ بيعه مردودٌ.
          وقال صاحب «الهداية»: قيل: المعتبر في وجوب السَّعي وحرمة البيع هو الأذان الأصليُّ الذي كان على عهد النبيِّ صلعم بين يدي المنبر. انتهى.
          وهو مذهب الطَّحاوي فإنَّه قال: هو المعتبر في وجوب السَّعي إلى الجمعة على المكلَّف، وفي حرمة البيع والشراء، وفي «فتاوى العتابي»: هو المختار، وبه قال الشافعيُّ وأحمد وأكثر فقهاء الأمصار، ونصَّ المرغينانيُّ على أنَّه هو الصَّحيح.
          وأمَّا الأذان الذي عند الزَّوال فيجوز البيع عنده مع الكراهة لدخول وقت الوجوب، لكن قال الأسنويُّ: ينبغي أن لا يكره في بلد يؤخِّرون فيها تأخيراً كثيراً نحو مكَّة لما فيه من الضَّرر.
          وقال ابن عمر ☻ : الأذان الأوَّل بدعة، ذكره ابن أبي شيبة في «مصنفه» عنه.
          ثمَّ إنَّ السَّعي إذا وقع فعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والشَّافعي ▓: يجوزُ البيع مع الكراهة وهو قولُ الجمهور؛ لأنَّ النَّهي ليس لمعنىً في العقد داخلٍ ولا لازم، بل خارج عنه مقارن له.
          وقال أحمدُ والظَّاهريَّة: يبطلُ البيع، وعن الثوريِّ: البيع صحيحٌ وفاعله عاصٍ لله تعالى، وروى ابن القاسم عن مالكٍ أنَّ البيع مفسوخ وهو قول أكثر المالكيَّة، وروى عنه ابن وهبٍ وعلي بن زياد: بئس ما صنع ويستغفر الله، وقال عنه: ولا أرى الربح فيه حراماً.
          وقال ابنُ القاسم: لا يُفسخُ ما عُقِد حينئذٍ من النِّكاح وكذا الهبة والصَّدقة، وحيث فسخ ترد السِّلعة إن كانت قائمةً، ويلزم قيمتها يوم القبض إن كانت فائتةً.
          والفرق بين النِّكاح والهبة والصَّدقة وبين غيرها من العقود، أمَّا الهبة والصدقة فتمليكٌ بغير عوضٍ، فإن بطل يلحق الموهوب له والمتصدق عليه مضرَّةً، وأمَّا النِّكاح فللاحتياط في الفروج، وأمَّا في غيرها من العقود فيردُّ على كلِّ واحدٍ ماله فلا يلحقه كثير مضرَّة.
          وقال أصبغُ من المالكيَّة: يفسخ النِّكاح، وقال / ابن التِّين: كلُّ من لزمه التَّوجُّه إلى الجمعة يحرمُ عليه ما يمنعه منه من بيعٍ أو نكاحٍ أو عملٍ.
          قال: واختلف في النِّكاح والإجازة، قال: وذكر القاضي أبو محمدٍ أنَّ الهبات والصدقات كذلك، وقال أبو محمد: من انتقض وضوءه فلم يجد ماءً إلَّا بثمنٍ جاز له أن يشتريَه ليتوضَّأ به ولا يُفسخ شراؤه، وكذا لو احتاج إلى اشتراء ما يواري عورتَه أو يقوته عند اضطراره.
          وقال الشافعيُّ في «الأم»: ولو تبايع الرَّجلان ليسا من أهل فرض الجمعة لم يحرمْ بحال ولا يكره، وإذا باع رجلان من أهل فرضها أو أحدهما من أهلِ فرضها، فإن كان قبل الزَّوال فلا كراهة، وإن كان بعده وقبل ظهور الإمام أو قبل جلوسه على المنبر، أو قبل شروع المؤذِّن في الأذان بين يدي الخطيب كره كراهة تنزيهٍ، وإن كان بعد جلوسه وشرع المؤذن (1) فيه حرم على المتبايعين جميعاً سواءٌ كانا من أهل الفرض أو أحدهما؛ لارتكاب أحدهما النَّهي ولإعانة الآخر له عليه، ولا يبطلُ البيع.
          وحرمة البيع ووجوب السَّعي مختصَّان بالمخاطبين بالجمعة، أمَّا غيرهم كالنِّساء فلا يثبتُ في حقِّه ذلك، وذكر ابن أبي موسى في غير المخاطبين روايتين، والله أعلم.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو: ابنُ أبي رباح (تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا) كالكتابة وغيرها؛ لأنَّها بمنزلة البيع في التَّشاغل عن الجمعة.
          وهذا التَّعليق وصله عبد الرحمن بن حميد في «تفسيره الكبير» عن روح عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: هل من شيءٍ يحرم إذا نودي بالأوَّل سوى البيع؟
          قال عطاء: إذا نودي بالأوَّل حرم اللَّهو والبيع والصِّناعات كلها، والرُّقاد، وأن يأتي الرَّجل أهله، وأن يكتب كتاباً.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، هو أبو إسحاق الزُّهري القرشي المدني كان على قضاء بغداد (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم بن شهاب (إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهْوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ) الجمعة، قال ابن المنذر: اختلف فيه على الزهريِّ فقد رُوِيَ عنه أيضاً: لا جمعة على مسافر، وقيل: يحمل كلام الزُّهري على حالين فحيث قال: لا جمعة على مسافر (2) أراد على طريق الوجوب، وحيث قال: فعليه أن يشهدَ، أراد على طريق الاستحباب.
          وأمَّا رواية إبراهيم بن سعد عنه، فيمكن أن يحملَ على أنَّه إذا اتَّفق حضوره في موضعٍ تقام فيه الجمعة فسمع النِّداء لها لا أنَّها تلزم المسافر مطلقاً حتَّى يحرمَ عليه السَّفر قبل الزَّوال من البلد الذي يدخلها مختاراً.
          وقال ابن بطَّال: وأكثرُ العلماء على أنَّه لا جمعة على مسافر، حكاه ابنُ أبي شيبة عن عليِّ بن أبي طالب وابن عمر وأنس بن مالك وعبد الرَّحمن بن سمُرة وابن مسعود ♥ ، وكذا عن نفرٍ من أصحاب عبد الله بن مسعودٍ ومكحول وعروة بن المغيرة وإبراهيم النَّخعي وعبد الله بن مروان والشعبي وعمر بن عبد العزيز ▓، ولما ذكر ابن التِّين قول الزهري / قال: إن أراد وجوباً فهو قولٌ شاذٌّ.
          وأخرج أبو داود في «مراسيله»: حدثنا قتيبة عن أبي صفوان عن ابن أبي ذئب عن صالح بن أبي كثير: أنَّ ابن شهاب خرج لسفر يوم الجمعة من أوَّل النهار، قال: فقلت له في ذلك، فقال: إنَّ رسول الله صلعم خرج لسفرٍ يوم الجمعة من أوَّل النهار.
          وفي «شرح المهذب»: أمَّا السفر ليلتها _يعني: الجمعة_ قبل طلوع الفجر فيجوز عندنا وعند العلماء كافَّةً إلا ما حكاه العَبْدري عن إبراهيم النَّخعي قال: لا تسافر بعد دخول العشي من يوم الخميس حتَّى تصلِّي الجمعة، وهذا مذهب باطلٌ لا أصل له.
          وقال العينيُّ: بل له أصلٌ صحيحٌ رواه ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن ابن جُريج عن عطاء عن عائشة ♦ قالت: إذا أدركتْكَ ليلة الجمعة فلا تخرج حتَّى تصلِّي الجمعة.
          وأمَّا السَّفر قبل الزَّوال فجوَّزه عمر بن الخطاب والزُّبير بن العوام وأبو عُبيدة بن الجرَّاح وعبد الله بن عمر ♥ ، وكذا الحسن وابن سيرين، وبه قال مالك وابن المنذر.
          وفي «شرح المهذب»: الأصحُّ تحريمه، وبه قالت عائشة وعمر بن عبد العزيز وحسَّان بن عطية ومعاذ بن جبل ♥ .
          وأمَّا السَّفر بعد الزَّوال يوم الجمعة إذا لم يخفْ فوت الرفقة ولم يصلِّ الجمعة في طريقه، فلا يجوز عند مالك وأحمد، وجوَّزه أبو حنيفة ⌠.


[1] من قوله: ((في الأذان... إلى قوله: وشرع المؤذن)): ليس في (خ).
[2] من قوله: ((وقيل يحمل... إلى قوله: على مسافر)): ليس في (خ).