نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فرض الجمعة

          ░1▒ (باب فَرْضِ الْجُمُعَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} [الجمعة:9]) أراد بهذا النِّداءِ الأذانَ عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، يدلُّ على ذلك: ما روى الزُّهري عن السَّائب بن يزيد: كان لرسول الله صلعم مؤذِّن واحد، ولم يكن له مؤذِّن غيره، وكان إذا جلس رسول الله صلعم على المنبر أذَّن على المسجد، فإذا نزل أقام الصَّلاة، ثمَّ كان أبو بكر ☺ كذلك، وعمر ☺ كذلك، حتَّى إذا كان زمن عثمان ☺، وكثر النَّاس [وتباعدت] المنازل زاد أذاناً، فأمر بالتَّأذين الأوَّل على دار له بالسُّوق، يقال له: الزَّوراء، فلم يُعَب ذلك عليه.
          ({مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9]) بيان لـ«إذا» وتفسير له، وقيل: بمعنى «في»، كما في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [الأحقاف:4] أي: في الأرض ({فَاسْعَوْا}) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحمويي وحده بعد قوله: <{فَاسْعَوْا} فامضوا> وهو تفسير منه للمراد بالسَّعي هنا، بخلاف قوله في الحديث الآخر: ((فلا تأتوها تسعون)) [خ¦908] فإنَّ المراد به الجري.
          وفي «تفسير النسفي»: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فامضوا إليه واعملوا. وعن ابن عمر ☻ : سمعت عمر ☺ يقرأ: ▬فامضوا إلى ذكر الله↨. وعنه: ما سمعت عمر ☺ يقرأها قطُّ إلَّا ▬فامضوا إلى ذكر الله↨ ويقول: لو قرأتها {فَاسْعَوْا} لسعيت حتَّى يسقط ردائي، وهي قراءة أبي العاليَّة.
          وعن الحسن: ليس المراد السَّعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا المسجد إلَّا وعليهم السَّكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيَّة والخشوع. وعن قتادة: أنَّه كان يقول في هذه الآية: {فَاسْعَوْا}؛ أي: تسعى بقلبك ونيَّتك.
          وقال الشَّافعي: السَّعي في هذا الموضع هو العمل، فإنَّ الله تعالى يقول: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقال تعالى: / {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة:205].
          ({إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}) أي: إلى الصَّلاة، وعن سعيد بن المسيب: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} موعظة الإمام، وقيل: إلى الخطبة، وقيل: إليهما معاً.
          ({وَذَرُوا الْبَيْعَ}) أي: اتركوا البيع والشِّراء؛ لأنَّ البيع يتناول المعنيين جميعاً، وإنَّما يحرم البيع عند الأذان الثَّاني.
          وقال الزُّهري: عند خروج الإمام، وقال الضَّحاك: إذا زالت الشَّمس حرم البيع والشِّراء. وقيل: أراد الأمر بترك ما يُذِهل عن ذكر الله من شواغل الدُّنيا، وإنَّما خصَّ البيع من بينهما؛ لأنَّ يومَ الجمعة يومٌ يهبط النَّاس فيه من قراهم وبواديهم، وينصبُّون إلى المصر من كلِّ أوب، ووقتُ هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انفتخ النَّهار وتعالى الضُّحى، ودنا وقت الظَّهيرة، وحينئذٍ يتكاثر البيع والشِّراء، فلمَّا كان ذلك الوقت مظنَّة الذُّهول بالبيع عن ذكر الله، والمضيُّ إلى المسجد قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدُّنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه مقارب.
          ({ذَلِكُمْ}) الكاف فيه حرف الخطاب؛ كالتاء في: أنت؛ أي: السَّعي إلى ذكر الله ({خَيْرٌ لَكُمْ}) من البيع والشِّراء وسائر المعاملات، فإنَّ نفع الآخرة خير وأبقى.
          ({إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الجمعة:9]) أي: إن كنتم من أهل العلم، ولفظ رواية ابن عساكر: <{فَاسْعَوْا} إلى قوله: {تَعْلَمُونَ}>.
          وقد استدلَّ المؤلِّف ☼ بهذه الآية على فرضيَّة الجمعة، وقد سبقه إليه الشَّافعي في «الأم».
          وقال الزَّين ابن الـمُنيِّر: وجه الدَّلالة من الآية مشروعيَّة النِّداء لها، إذ الأذان من خواصِّ الفرائض، وكذا النَّهي عن البيع؛ لأنَّه لا ينهى عن المباح؛ يعني: نهي تحريم إلَّا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التَّوبيخ على قطعها.
          وقال الشَّيخ الموفق: الأمر بالسَّعي يدلُّ على الوجوب، إذ لا يجب السَّعي إلا إلى واجب.
          أقول: بل هذا الواجب أوكد على تقدير أن يراد بالذِّكر: الخطبة، فإنَّه إذا فرض السَّعي إلى الخطبة التي هي شرط جواز الصَّلاة، فإلى أصل الصَّلاة كان أوجب، والله أعلم. ثمَّ فرضيَّتها كما تثبت بالكتاب تثبت بالسنَّة والإجماع، ونوع من المعنى أيضاً.
          أمَّا السنَّة: فحديث جابر وأبي هريرة ☻ قالا: خطبنا رسول الله صلعم ... الحديث، وفيه: ((واعلموا أنَّ الله تعالى فرض عليكم صلاة الجمعة)) الحديث.
          وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ☻ ، عن النَّبي صلعم أنَّه قال: ((الجمعة على من سمع النِّداء)).
          وعن حفصة ☺: أنَّه صلعم قال: ((رواح الجمعة واجب على كلِّ محتلم)) رواه النَّسائي بإسناد صحيح على شرط مسلم.
          وأمَّا الإجماع؛ فإنَّ الأمَّة قد أجمعت على فرضيَّتها من لدن رسول الله صلعم إلى يومنا هذا من غير إنكار، لكن اختلفوا في فرض الوقت، فقال الشَّافعي في الجديد وزفر ومالك وأحمد ومحمَّد في رواية: / إنَّ الجمعة هو فرض الوقت، والظُّهر بدل عنها.
          وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشَّافعي في القديم: الفرض هو الظُّهر، ولكنَّه مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة. وقال محمَّد في رواية: فرضُ الوقت أحدهما غير عين، والتَّعيين إليه، وفائدة الخلاف تظهر فيمن (1) أدَّى الظُّهر في أوَّل وقته حيث يجوز مطلقاً، حتَّى لو خرج بعد أداء الظُّهر إليها، أو لم يخرج لم يبطل فرضه عند محمد في رواية عنه، ويبطل عند أبي حنيفة بمجرَّد السَّعي مطلقاً، وعندهما: لا يبطل إلَّا إذا أدرك. وعند الشَّافعي ومن معه: لا يجوز سواء خرج إليها أو لم يخرج.
          وأمَّا المعنى: فهو أنَّا أمرنا بترك الظُّهر لإقامة الجمعة والظُّهر فريضة، ولا يجوز ترك الفرض إلَّا لفرض هو آكد منه وأولى، فدلَّ على أنَّ الجمعة آكد من الظُّهر في الفرضيَّة، فصارت الجمعة فرض عين.
          وقال الخطَّابي: أكثر الفقهاء على أنَّها من فروض الكفاية، قال: هذا غلط.
          وحكى أبو الطَّيِّب عن بعض أصحاب الشَّافعي: غلط من قال: إنَّها فرض كفاية. وفي «الدِّراية»: صلاة الجمعة فريضة محكمة جاحدها كافر بالإجماع.
          ثمَّ إنَّه قد اختلف في وقت فرضيَّتها، فالأكثر على أنَّها فرضت بالمدينة، وهو مقتضى ما تقدَّم أنَّ فرضيَّتها بالآية المذكورة، وهي مدنيَّة.
          وقال الشَّيخ أبو حامد: فرضت بمكَّة وهو غريب، قاله الحافظ العسقلانيُّ.


[1] لفظ العمدة وكوثر المعاني: تظهر في حرٍّ مقيم أدى...