إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنكم محشورون حفاةً عراةً

          6526- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولابن عساكرٍ: ”حَدَّثنا“ (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بالموحدة المفتوحة بعدها معجمة مشددة، الملقَّب ببُنْدَارٍ(1) العبديُّ قال: (حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ) بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة بعدها راء، محمَّدُ بن جعفرٍ قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجَّاج (عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ) النَّخعيِّ، ولابن عساكرَ: ”يعني: ابن النُّعمان“ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ ، أنَّه (قَالَ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلعم يَخْطُبُ فَقَالَ) في خطبته: (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ) بميم مفتوحة، اسم مفعولٍ من حشر، ولابن عساكرَ وأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”تُحشرون“ بفوقية مضمومة، مبنيًّا للمفعول من المضارع (حُفَاةً عُرَاةً) زاد أبو ذرٍّ: ”غرلًا“ ولم يقل هنا أيضًا: «مُشاةً» قال ابن عبد البرِّ: يُحشر الآدميُّ عاريًا، ولكلٍّ من الأعضاء ما كان له يوم وُلِد، فمَن قُطع منه شيءٌ يردُّ إليه حتَّى الأقلف ({كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} الآيَةَ[الأنبياء:104]) بأن نجمعَ أجزاءه المتبدِّدة(2)، أو نُعيد ما خلقناهُ(3) مبتدأ إعادةً مثل بدئنا إيَّاه في كونهما إيجادًا عن العدمِ، والمقصودُ بيان صحَّة الإعادةِ بالقياسِ على الابتداء(4)؛ لشمولِ الإمكان الذَّاتيِّ المصحِّح للمقدوريَّة، وتناول القدرة القديمةِ لهما على السَّواء.
          فإن قلتَ: سياق الآية في إثباتِ الحشر والنَّشر؛ لأنَّ المعنى: يوجدكُم من العدم كما مرَّ، فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور؟
          أجاب الطِّيبيُّ بأنَّ سياق الآية دلَّ على إثباتِ الحشر، وإشارتها على المعنى المراد من الحديث، فهو من باب الإدماج.
          (وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ‼ إِبْرَاهِيمُ) لأنَّه أوَّل من عُرِّي في ذاتِ الله حين أرادوا إِلقاءه في النَّار، وقيل: لأنَّه مَن استنَّ التَّستُّر بالسَّراويل، وقيل: لأنَّه لم يكن في الأرضِ أخوف لله منه، فعُجِّلت له كُسوته أمانًا له ليطمئنَّ قلبه، واختارَ هذا الأخير الحَليميُّ، وقد أخرج ابنُ منده من حديث معاوية بنِ حَيْدةَ رفعه: «أوَّلُ من يكسَى إبراهيم، يقول اللهُ: اكسُوا خليلِي؛ ليعلمَ النَّاسُ فضلهُ عليهمْ» وقول أبي العبَّاس القُرطبيِّ: يجوز أن يرادَ بالخلائقِ ما عدا نبيِّنا صلعم فلم يدخلْ في عموم خطاب نفسه. تعقَّبه في «التَّذكرة» بحديث عليٍّ عند ابن المبارك في «الزُّهد»: «أوَّل مَن يُكسى يوم القيامة خليلُ الله قُبْطِيَّتين(5) ثمَّ يُكسى محمَّدٌ صلعم حُلَّةً حِبَرَةً عن يمين العرشِ». انتهى.
          ولا يلزم من تخصيصِ إبراهيم ◙ بأنَّه أوَّل مَن يُكسى أن يكون أفضل من نبيِّنا على ما لا يخفى، وكم لنبيِّنا من فضائل مختصَّة به لم يُسبق إليها ولم يُشارك فيها، وإذا بدئ الخليل بالكُسوة وثُنِّي بنبيِّنا صلعم أُتي نبيُّنا بحلَّةٍ لا يقوم لها البشر؛ ليُجْبَر التَّأخير بنفاسة الكُسوة، فيكون كأنَّه كُسيَ مع الخليل، قاله الحَليميُّ.
          (وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) أي(6): جِهة جهنَّم(7) (فَأَقُولُ: يَا رَبِّ) هؤلاء (أُصَيْحَابِي) بضم الهمزة، مصغَّرًا خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هؤلاء كما مرَّ، ولأبي ذرٍّ وابن عساكرَ: ”أصحابي“ أي: أُمَّتي أُمَّة الدَّعوة (فَيَقُولُ الله) ╡: (إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ) عيسى ابن مريم: ({وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}) رقيبًا ({مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}) إلى قوله: ({الْحَكِيمُ}[المائدة:117] قَالَ: فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ) وللكُشميهنيِّ: ”لن“ (يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) زاد في ترجمة «مريم» من «أحاديث الأنبياء» [خ¦3447] «قال الفَـِرَبْريِّ: ذكر عن أبي عبد الله البُخاريِّ عن قبيصةَ، قال: هم الَّذين ارتدُّوا على عهد أبي بكرٍ، فقاتلهم أبو بكر» يعني: حتَّى قُتلوا وماتوا على الكفرِ، وقد وصله / الإسماعيليُّ، ويُحتمل أن يكونوا منافقين، وقال البيضاويُّ: ليس قوله نصًّا في كونهم ارتدُّوا عن الإسلام بل يُحتمل ذلك، ويُحتمل أن يرَاد أنَّهم عُصاةٌ مرتدُّون عن الاستقامة يُبدّلون الأعمال الصَّالحة بالسَّيِّئة.


[1] في (د): «بندار».
[2] في (د): «المبددة».
[3] في (ص): «بدأناه».
[4] في غير (د): «الإبداءِ».
[5] في (د): «فيطمئن».
[6] في (د): «إلى».
[7] في (د) زيادة: «وناحيتها»، وفي (ل): «إلى جهة جهنَّم وجهتها».