إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يحشر الناس على ثلاث طرائق

          6522- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُعَلَّى) بضم الميم وفتح العين المهملة واللام المشددة (ابْنُ أَسَدٍ) البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) بضم الواو وفتح الهاء، ابن خالدٍ (عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ) عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) طاوس بن كيسان اليمانيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم (1)) أنَّه (قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ) قُبيل السَّاعة إلى الشَّام (عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ) أي: فِرَقٍ؛ فرقة (رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ) بغير واو في الفرع كأصلهِ في «راهبين» وقال في «الفتح»: ”وراهبين“ بالواو، وفي مسلمٍ بغير واو، وهذه الفرقة هي الَّتي اغتنمتِ الفُرصة وسارت على فُسحةٍ من الظَّهر، ويسرةٍ من الزَّاد راغبةً فيما تستقبلُه راهبةً فيما تستدبره (وَ) الفِرقة الثَّانية تقاعدتْ حتَّى قلَّ الظَّهر وضاق عن أن يسعَهم؛ لركوبهمْ فاشتركوا فركبَ منهم (اثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ) يعتقبون (عَلَى بَعِيرٍ) بإثبات الواو في الأربعةِ في فرع «اليونينيَّة» كهي. وقال الحافظُ ابن حجرٍ: بالواو في الأوَّل فقط، وفي رواية مسلمٍ والإسماعيليِّ بالواو في الجميع، ولم يذكرِ الخمسة والستَّة إلى العشرة اكتفاءً بما ذكر (وَيَحْشُرُ) بالتَّحتية، ولأبي ذرٍّ بالفوقيَّة‼ (بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ) لعجزِهم عن تحصيلِ ما يركبونَهُ وهي الفرقة الثَّالثة، والمراد بالنَّار هنا نار الدُّنيا لا نار الآخرة، وقيل: المراد نارُ الفتنةِ، وليس المرادُ(2) نار الآخرة.
          قال الطِّيبيُّ: لقوله: «ويحشرُ بقيَّتهم النَّار» فإنَّ النَّار هي الحاشرةُ، ولو أريد ذلك المعنى لقالَ: إلى النَّار، ولقوله: (تَقِيلُ) من القيلولة، أي: تستريحُ (مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ) من البيتوتةِ (مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا) فإنَّها جملةٌ مستأنفةٌ بيانٌ للكلام السَّابق، فإنَّ الضَّمير في «تقيل» راجعًا إلى النَّار الحاشرة، وهو من الاستعارةِ، فيدلُّ على أنَّها ليست النَّار الحقيقيَّة بل نار الفتنةِ، كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ}[المائدة:64] ولا يمتنعُ إطلاق النَّار على الحقيقيَّة وهي الَّتي تخرج من عدنٍ، وعلى المجازيَّة وهي الفتنةُ؛ إذ لا تَنافي بينهما.
          وفي حديث حُذيفة بن أَسيد _بفتح الهمزة_ عند مسلمٍ المذكور فيه الآيات الكائنة قبل يوم السَّاعة كطلوعِ الشَّمس من مغربها، وفيه: «وآخر ذلك نارٌ تخرجُ من قعر عدنٍ تُرحِّل النَّاس»، وفي رواية له: «تطردُ النَّاس إلى حشرِهم»، وفي حديثِ معاويةَ بنِ حَيْدةَ جدِّ بَهْز بن حكيمٍ، رفعه: «إنَّكُم محشورُونَ(3) _ونحَا بيدهِ نحو الشَّامِ_ رجالًا وركبانًا وتُجَرُّونَ(4) على وجوهِكُم» رواه التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ بسندٍ قويٍّ.
          وعند أحمد بسندٍ لا بأس به حديثٌ: «ستكون هجرةٌ بعدَ هجرةٍ، وينحازُ(5) النَّاس إلى مُهَاجَر إبراهيمَ، ولا يبقى في الأرضِ إلَّا شرارها تلفظُهم أرضوهُم وتحشرُهم النَّار مع القِردة والخنازير، تبيتُ معهم إذا باتُوا وتقيلُ معهم إذا قالوا». وفي حديثِ أبي ذرٍّ عند أحمد والنَّسائيِّ والبيهقيِّ: حدَّثني الصَّادق المصدوق: «إنَّ النَّاسَ يحشرونَ يومَ القيامةِ على ثلاثةِ أفواجٍ: فوجٌ طاعمينَ كاسينَ راكبينَ، وفوجٌ يمشونَ، وفوجٌ تسحبهُمُ الملائكةُ على وجوههم» الحديث. وفيه: أنَّهم سألوا عن السَّبب في مشي المذكورين، فقال: «يُلْقِي الله الآفةَ على الظَّهر حتَّى لا يبقى ذاتُ ظهرٍ، حتَّى إنَّ الرَّجلَ ليُعطى الحديقَةَ المُعْجبةَ بالشَّارف ذات القَتَب» أي: يشتري النَّاقة المسنَّة / لأجلِ ركوبها(6) تحملُه على القَتَب بالبستانِ الكريمِ لهوانِ العقار الَّذي عَزَمَ على الرَّحيل عنه، وعزَّة الظَّهر الَّذي يوصلُه إلى مقصودهِ، وهذا لائقٌ بأحوالِ الدُّنيا.
          لكن استُشكل قوله فيه: «يوم القيامة»؟ وأُجيب بأنَّه مؤوَّلٌ على أنَّ المراد بذلك: أنَّ يوم القيامة يعقبُ ذلك، فيكون من مجازِ المجاورة، ويتعيَّن ذلك لِمَا وقع فيه أنَّ الظَّهر يقل لِمَا يُلقى عليه من الآفةِ، وأنَّ الرَّجل يشتري الشَّارف الواحدَ(7) بالحديقةِ المعجِبة، فإنَّ ذلك ظاهرٌ جدًّا في أنَّه من أحوال الدُّنيا لا بعد البَعث، ومن أين للَّذين يُبعثون بعد الموت حُفاةً عُراةً(8) حدائق يدفعونها في الشَّوارفِ، ومَالَ الحَليميُّ وغيره إلى أنَّ‼ هذا الحشر يكون عند الخروج من القبورِ، وجزمَ به الغزاليُّ، وذهبَ إليه التُّوربشتيُّ في «شرح المصابيح» له، وأشبعَ الكلام في تقريرهِ بما يطولُ ذكره.
          والحديثُ أخرجهُ مسلمٌ في «باب يُحشر النَّاس على طرائق».


[1] «عن النبي صلعم »: ليست في (د).
[2] «نار الفتنة وليس المراد»: ليست في (د).
[3] في (ب) و(س): «تحشرون».
[4] في (د): «وتخرون».
[5] في (د): «ويتجاوز».
[6] في (د): «كونها».
[7] في (ب) و(س): «الواحدة».
[8] «عراة»: ليست في (د).