إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن رجلًا قال للنبي: أوصني؟قال: لا تغضب

          6116- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ) الزِّمِّيُّ _بكسر الزاي والميم المشددة_، قال: (أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ هُوَ ابنُ عَيَّاشٍ) بالتحتية المشددة والشين المعجمة، راوي عاصم أحد القرَّاء السَّبعة (عَنْ أَبِي حَصِينٍ) بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، عُثمان بن عاصم الأسديِّ الكوفيِّ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان الزَّيَّات (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ أَنَّ رَجُلًا) اسمه جَارية _بالجيم_ ابن قُدامة، كما عند أحمد وابن حبَّان (قَالَ لِلنَّبِيِّ صلعم : أَوْصِنِي. قَالَ) صلعم له(1): (لَا تَغْضَبْ) زاد الطَّبرانيُّ من حديث سفيان(2) بن عبد الله الثَّقفيِّ: «ولك الجنَّة». (فَرَدَّد) صلعم (مِرَارًا، قَالَ(3): لَا تَغْضَبْ(4)) زاد في رواية: ”ثلاثًا“. قال الخطابيُّ: أي اجتنبْ أسبابَ الغضبِ / ، ولا تتعرَّض لِمَا يجلبه لأنَّ نفس الغضبِ مطبوعٌ في الإنسان لا يمكن إخراجهُ من جبلَّته. وقال ابن حبَّان: أراد لا تعملْ بعد الغضبِ شيئًا ممَّا نُهيت عنه لا أنَّه نهاهُ عن شيءٍ جبلَ عليه، ولا حيلةَ له في دفعه، وقد اشتملتْ هذه الكلمة‼ اللَّطيفة من الحكم واستجلابِ المصالح والنِّعم ودرءِ المفاسد والنِّقم على ما لا يحصَى بالعَدِّ، وقد بيَّن ذلك ما نقلَه في «الفتح» وأشارَ إليه في «قوت الأحياء» مع زيادة وهو أنَّ الله خلق الغضب من النَّار، وجعله غريزةً في الإنسان، فمهما قصدَ(5) أو نُوزع في غرضٍ ما اشتعلتْ نار الغضبِ وثارتْ حتَّى يحمرَّ الوجه والعينان من الدَّم؛ لأنَّ البشرةَ تحكي لون ما وراءها، وهذا إذا غضب على من دونهُ واستشعرَ القدرةَ عليه، وإن كان ممن(6) فوقه تولَّد منه انقباض الدَّم من ظاهر الجلدِ إلى جوفِ القلب فيصفرُّ اللَّون حزنًا، وإن كان على النَّظير تردَّد الدَّم بين انقباضٍ وانبساطٍ فيحمرُّ ويصفرُّ، ويترتَّب على الغضبِ تغيُّر الظَّاهر والباطن كتغيُّر اللَّون والرِّعدة في الأطرافِ، وخروجِ الأفعال على غير ترتيبٍ واستحالةِ الخلقة حتَّى لو تراءى الغضبانُ نفسه في حال(7) غضبه؛ لسكن غضبُه حياءً من قبحِ صورتهِ واستحالةِ خلقتهِ، هذا كلُّه في الظَّاهر، وأمَّا الباطن فقبحُه أشدُّ من الظَّاهر لأنَّه يولِّد الحقدَ في القلبِ، والحسدَ، وإضمارَ السُّوء، ويزيدُ(8) الشَّماتةَ وهجرَ المسلم ومصارمتَه والإعراضَ عنه والاستهزاءَ والسُّخريةَ ومنعَ الحقوق، بل أوَّل شيءٍ يقبُحُ منه باطنُه، وتغيُّر ظاهرِهِ ثمرةُ تغيِّر باطنهِ، وهذا كلُّه أثرهُ في الجسد، وأمَّا أثرهُ في اللِّسان فانطلاقُه بالشَّتم والفُحش الَّذي يستحِي منه العاقلُ، ويندَمُ قائلُه عند سكونِ الغضب، ويظهرُ أثرُ الغضبِ أيضًا في الفعل بالضَّرب والقتلِ، وإن فاتَ بهربِ المغضوبِ عليه رجعَ إلى نفسهِ، فيمزِّق ثوبَ نفسهِ ويلْطِمُ خدَّه، وربما سقط صريعًا، وربَّما أغمِي عليه، وربَّما كسر الآنيةَ، وضربَ من ليس له في ذلك جريمةٌ، وبالاعتدالِ تتمُّ المصالح، وشفاء كلِّ علَّةٍ ضدُّها بلا إسرافٍ، فاقمعْ أسباب الغضبِ من الكِبْر والفَخْرِ والهزل والمزحِ والتَّعييرِ والمماراةِ والغدرِ والحرصِ على فضول المالِ أو(9) الجاه، فإذا أُغْضِبتَ تثبَّتْ ثمَّ تفكَّر فضلَ كظمِ الغيظِ ونحوه، وأحسنْ تَفُزْ بما أخبرَ به تعالى: {وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69] أو اعْفُ، ولا تقابلْ فتُقابل، وأطعِ الله فيمن أساءَ إليك، وأنلْهُ فضلك(10) يُمْنح بحسنِ خُلُقكَ حبَّك، وأرغمِ الشَّيطان بالمبالغةِ في الإحسان(11)، فإنَّه متى علم الشَّيطان منك أنَّه كلَّما وسوس إليك بجفاءٍ بادرت الوفاءَ صار أكثر كيده، أنَّه(12) لا يأتيكَ كي يمنعكَ مخالفتهُ، ومتى ضررت عدوَّك بما ضرَّ دينك فبنفسكَ بدأتَ، فاخترْ لنفسكَ ما يحلو، وبالله التَّوفيق والمستعان.
          والحديثُ أخرجهُ التِّرمذيُّ في «البِرِّ».


[1] «له»: ليست في (د).
[2] في (ب) و(س) و(ص): «سعد».
[3] «قال»: ليست في (د).
[4] «لا تغضب»: جاءت في (د) بعد قوله: «ثلاثًا».
[5] في (س): «صد».
[6] في (د): «من».
[7] في (د) و(ع): «حالة».
[8] في (د) و(ع): «مزيد».
[9] في (ص) و(د): «و».
[10] في (ع) و(د): «لتسلبه بغضك، و»، وفي (ص): «لتنله بفضل، و».
[11] في (د): «بالمبالغة بالإحسان».
[12] في (د): «أن».