إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه

          ░90▒ (بابُ مَا يَجُوزُ) أن يُنشدَ (مِنَ الشِّعْرِ) وهو الكلام المقفَّى الموزون قصدًا، والتَّقييد بالقصدِ مُخْرِج ما وقع موزونًا اتفاقًا فلا يسمَّى شعرًا (وَ) ما يجوز من (الرَّجَزِ) بفتح الراء والجيم بعدها زاي، وهو نوعٌ من الشِّعر عند الأكثرِ، فعلى هذا يكون عطفهُ على الشِّعر من عطفِ الخاصِّ على العامِّ، واحتجَّ القائل بأنَّه ليس بشعرٍ، بأنَّه(1) يقال فيه: راجزٌ لا شاعرٌ، وسمِّي رجزًا لتقارب أجزائهِ واضطراب اللِّسان به، يقال: رَجَزَ البعيرُ، إذا تقاربَ خَطْوهُ واضطربَ لضعفٍ فيه (وَ) ما يجوزُ من (الحُدَاءِ) بضم الحاء وتخفيف الدال المفتوحة المهملتين يمدُّ ويُقصر، سَوقِ الإبلِ بضربٍ مخصوصٍ من الغناء(2)، ويكون بالرَّجَز غالبًا، وأوَّل من حَدا الإبل عبدٌ لمُضَرَ بنِ نزارِ بن معدِّ بن عدنان، كان في إبلٍ لمضر فقصَّر، فضربَه مُضر على يدهِ فأوجعهُ‼، فقال: يا يداهُ يا يداهُ، وكان حسنَ الصَّوت، فأسرعتِ الإبلُ لَمَّا سمعته في السَّير، فكان ذلك مبدأ الحُدَاء، رواه ابنُ سعدٍ بسندٍ صحيحٍ عن طاوس مرسلًا، وأورده البزَّار موصولًا عن ابن عبَّاس. دخلَ حديثُ بعضهم في بعضٍ، ويلحقُ به غناءُ الحجيجِ المشوِّق للحجِّ بذكر الكعبةِ البيت الحرام وغيرها من المشاعرِ العظام، وما يحرِّضُ أهل الجهادِ على القتال(3)، ومنه غناءُ المرأة لتسكيت الولد في المهد (وَ) بيان (مَا يُكْرَهُ) إنشادُه (مِنْهُ) من الشِّعرِ، والجائز من الشِّعر ما لم يكثر منه في المسجدِ، وخلا عن الهجو، وعن الإغراقِ في المدحِ، والكذب المحضِ، فالتَّغزُّل بمعيَّنٍ لا يسوغُ.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على السَّابق: ({وَالشُّعَرَاء}) مبتدأ خبرُه ({يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}) أي: لا يتبعُهم على باطلهِم وكذبهِم، وتمزيقِ الأعراضِ، والقَدح في الأنسابِ، ومدح من لا يستحقُّ المدح والهجاء، ولا يستحسنُ ذلك منهم إلَّا الغاوون، أي: السُّفهاء، أو الرَّاوون، أو الشَّياطين، أو المشركون، وسمَّى الثَّعلبيُّ من شعراء المشركين: عبدَ الله بن الزِّبَعْري(4)، وهُبيرةَ بن أبي وَهْبٍ، ومُسَافعَ بن عبد مناف وأبا عزة(5) عَمرو، وأميَّة بنَ أبي الصَّلت. قال الزَّجَّاج: إذا مدحَ أو هجا شاعرٌ بما لا يكون، وأحبَّ ذلك قومٌ وتابعوه، فهم الغاوون ({أَلَمْ تَرَ}) ولأبي ذرٍّ: ”وقولهِ: {أَلَمْ تَرَ}“(6) ({أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ}) من الكلام ({يَهِيمُونَ}) خبر {أَنَّ} أي: في كلِّ فنٍّ من الكذبِ يتحدَّثون، أو في كلِّ لغوٍ وباطلٍ يخوضون، كما يأتي قريبًا عن ابن عبَّاس إن شاء الله تعالى، والهائم الذَّاهب على وجههِ لا مقصدَ له، وهو تمثيلٌ لذهابهم في كلِّ شعبٍ من القولِ، واعتسافِهم حتَّى يفضِّلوا أجبنَ النَّاس على عنترةَ، وأبخلهم على حاتمٍ. وعن الفرزدق أنَّ سليمانَ بنَ عبد الملك سمعَ قوله:
فَبِتْنَ بِجَانبَيَّ مُصَـرَّعَاتٍ                     وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الخِتَامِ
          فقال: قد وجبَ عليك الحدُّ، فقال: قد درأَ الله الحدَّ عنِّي بقولهِ: ({وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}) حيث وصفَهم بالكذبِ، والخلف في الوعد، ثمَّ استثنى الشُّعراء المؤمنين الصَّالحين بقولهِ: ({إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}) كعبد الله بنِ رواحة، وحسَّان بن ثابتٍ، وكعبِ بن زهير، وكعبِ بن مالك ({وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا}) يعني كان ذكرُ الله وتلاوةُ القرآن أغلب عليهم من الشِّعر، وإذا قالوا شعرًا قالوه في توحيدِ الله، والثَّناء عليه، والحكمة والموعظة والزُّهد والأدب، ومدح رسول الله صلعم والصَّحابة وصلحاء الأمَّة ونحو ذلك ممَّا ليس فيه ذنبٌ ({وَانتَصَرُوا}) وهجوا ({مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}) هجوًا / ، أي: ردُّوا هجاء من هجا رسولَ الله صلعم والمسلمين، وأحقُّ الخلق بالهجاءِ من كذَّب رسول الله صلعم وهجاهُ. وعن كعب بن مالكٍ: أنَّ رسول الله صلعم قال‼ له: «اهجُهم فوالَّذي نفسِي بيده لهو أشدُّ عليهم من النَّبل» وكان يقول لحسَّان: «قلْ وروحُ القُدس معك» وختم(7) السُّورة بما يقطع أكبادَ المتدبِّرين، وهو قوله: ({وَسَيَعْلَمُ}) لِمَا(8) فيه من الوعيدِ البليغ، وقوله: ({الَّذِينَ ظَلَمُوا}) وإطلاقه(9)، وقوله: ({أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}[الشعراء:224_227]) وإبهامهُ. قال ابنُ عطاء: سيعلمُ المُعْرض عنَّا ما الَّذي فاته منَّا، وقوله: {أَيَّ} نصب بـ {يَنقَلِبُونَ} على المصدرِ لا بـ {وَسَيَعْلَمُ} لأنَّ أسماء الاستفهامِ لا يعملُ فيها ما قبلها، أي: ينقلبون أيَّ انقلابٍ، وسياق الآية إلى آخر السُّورة ثابتٌ في رواية كريمةَ والأَصيليِّ، ووقع في رواية أبي ذرٍّ بعد قولهِ: {الْغَاوُونَ} أن قال: ”إلى آخر السُّورة“. ثمَّ قال: ”وقولهِ: {وَأَنَّهُمْ}“ وذكر: ”إلى آخر السُّورة“ كذا في الفرع وأصله(10)، وفيه أيضًا على قولهِ: ”{وَأَنَّهُمْ}... إلى آخر السُّورة“ علامة السُّقوط لأبي ذرٍّ أيضًا. وقال الحافظ ابن حجرٍ وتبعه العينيُّ: ووقع في رواية أبي ذرٍّ بين قوله: {يَهِيمُونَ} وبين قولهِ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ} لفظ: ”وقوله“ وهي(11) زيادةٌ لا يحتاجُ إليها.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) في تفسير قولهِ: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} فيما وصله ابنُ أبي حاتمٍ والطَّبريُّ: (فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ).


[1] في (د): «لأنه».
[2] في (س): «والغناء».
[3] في (ع): «القتال على الجهاد».
[4] في (د): «الزعبري».
[5] قوله: «عبد مناف وأبا عزة» زيادة من مصادر المصنف.
[6] قوله: «ولأبي ذر وقوله ألم تر»: ليس في (د).
[7] في (د): «ختم».
[8] في (س): «وما».
[9] في (ع): «إطلاق».
[10] قوله: «وأصله»: ليس في (د) و(ع).
[11] في (د): «وهو».