إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال

          6047- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُنْدار البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بنِ فارس البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المُبَارَكِ) الهنائيُّ (عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) بالمثلثة، الإمام أبي نصرٍ اليمانيِّ الطَّائيِّ، أحد الأعلام (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) بكسر القاف، عبدِ الله بن زيد الجرميِّ (أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ) الأنصاريَّ الأشهليَّ (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ) شجرة الرِّضوان بالحديبية (حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلَامِ) بتنوين «ملَّة» فغير صفة وعلى بمعنى الباء، ويحتملُ أن يكون التَّقدير من حلف على شيءٍ بيمين(1) فحذف المجرور وعدَّى الفعل بعلى بعد حذف الباء، والأوَّل أقلُّ في التَّعبير كأن يقول: إن فعل كذا فهو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ كاذبًا (فَهْوَ كَمَا قَالَ) الفاء جواب الشرط و«هو» مبتدأ، أو «كما قال» في محلِّ الخبر، أي: فهو كائنٌ كما قال، أو الكاف بمعنى مثل، فتكون «ما» مع ما بعدها في موضعِ جرٍّ بالإضافة، أي: فهو مثل قوله، فتكون «ما» مصدريَّة، ويحتملُ أن تكون موصولة والعائدُ محذوفٌ، أي: فهو كالَّذي قاله، والمعنى: فمِثْلُهُ(2) مِثْل قولهِ؛ لأنَّ هذا الكلام محمولٌ على التَّعليق مثل أن يقول: هو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ إن كان فعل كذا. والحاصل أنَّه يُحكم عليه بالَّذي نسبهُ لنفسهِ، وظاهره أنَّه يكفرُ، أو هو(3) محمولٌ على من أراد أن يكون متَّصفًا بذلك إذا وقع المحلوف عليه لأنَّ إرادة الكفر كفرٌ، فيكفر في الحال، أو المراد التَّهديد والمبالغةُ في الوعيدِ لا الحكم وإن قصد تبعيدَ نفسه وظاهرِهِ(4) عن الفعلِ فليس بيمينٍ ولا يكفرُ به(5). وإن قال: واللَّات والعزَّى، وقصد التَّعظيم واعتقدَ فيها من التَّعظيم ما يعتقدُه في الله كفرَ‼، وإلَّا فلا. قال في «الرَّوضة»: وليقل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أي: الحديثُ الصَّحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: «من حلفَ فقالَ في حلفِهِ: واللَّات والعزَّى، فليقل: لا إلهَ إلَّا الله» ففيه دليلٌ على أنَّه لا كفارةَ على من حلفَ بغير الإسلامِ، بل يأثمُ وتلزمه التَّوبة لأنَّه صلعم جعل عقوبته في دينهِ، ولم يوجبْ في ماله شيئًا، وإنَّما أمرهُ بكلمةِ التَّوحيد لأنَّ اليمين إنَّما تكون بالمعبودِ، فإذا حلفَ باللَّات والعزَّى فقد ضَاهى الكفَّار في ذلكَ، فأمره(6) أن يتداركه بكلمة التَّوحيد، قاله البغويُّ في «شرح السُّنَّة».
          (وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ) أي: ليسَ عليه وفاء نذرٍ (فِيمَا لَا يَمْلِكُ) كأن يقول: إنْ شفى الله مريضِي فعبد فلان حرٌّ، أو أتصدَّق بدار زيد، أمَّا لو قال نحو: إن شفَى الله مريضِي فعليَّ عتقُ رقبةٍ، ولا يملك شيئًا في تلك الحالة، فليس من النَّذر فيما لا يملكُ لأنَّه يقدر عليه في الجملة حالًا أو(7) مآلًا فهو يملكه بالقوَّة، وقوله: «نذرٌ» رفع اسم ليس، و«على ابنِ آدم» / في موضع الخبر، و«فيما» يتعلَّق بنذر؛ لأنَّه مصدر، أو يتعلَّق بصفةٍ لنذر، أي: نذر ثابت فيما لا يملكُ، و«لا يملك» جملة في محلِّ صلة ما، وما وصلتها في محل جرٍّ بفي (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) ليكون الجزاء من جنسِ العملِ، وإن كان عذابُ الآخرة(8) أعظم (وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهْوَ كَقَتْلِهِ) في التَّحريم، أو في العقاب، أو في الإبعاد؛ لأنَّ اللَّعن تبعيدٌ من رحمةِ الله، والقتل تبعيدٌ من الحياة، والضَّمير للمصدرِ الَّذي دلَّ عليه الفعل، أي: فلعنُه كقتله. والتَّقييد بالمؤمن للتَّشنيع أو للاحترازِ عن الكافر؛ إذ لا خلافَ في لعن الكافرِ جملة بلا تعيين، أمَّا لعنُ العاصي المعيَّن فالمشهور فيه المنع، ونقلَ ابن العربيِّ الاتِّفاق عليه (وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا) رماهُ (بِكُفْرٍ فَهْوَ كَقَتْلِهِ) لأنَّ النِّسبة إلى الكفْرِ الموجبِ للقتلِ كالقتلِ في أنَّ المتسبِّبَ للشَّيء كفاعلهِ.


[1] في (د): «بملة».
[2] في (ص) و(ب): «فملته».
[3] في (د): «وهو».
[4] «وظاهره»: ليست في (د).
[5] في (ع): «فيه».
[6] في (د): «فأمر».
[7] في (د) و(ع): «و».
[8] في (ب): «الآخر».