إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه

          5987- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ بالجمع (بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) المروزيُّ قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ) بن المبارك قال: (أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ) بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء المكسورة بعدها دال مهملة، عبد الرَّحمن مَولى هاشمٍ المدنيُّ (قَالَ: سَمِعْتُ عَمِّي سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ) بالتحتية والمهملة المخففة، أبا(1) الحُبَاب _بضم الحاء المهملة وموحدتين بينهما ألف_ المدنيُّ، واختُلف في ولائهِ لمن هو (يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: إِنَّ اللهَ) ╡ (خَلَقَ الخَلْقَ) جميعهم أو المكلَّفين، ويحتملُ أن يكون بعد خلقِ السموات والأرض وإبرازها في الوجودِ، أو بعد خلقِها كَتْبًا في اللَّوح المحفوظ، أو بعدَ انتهاءِ خلقِ أرواحِ بني آدم عند قولهِ تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ}[الأعراف:172] لمَّا أخرجَهُم من صُلب آدم مثلَ الذَّرِّ (حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ) أي: قضاهُ وأتمَّه، ونحو ذلك ممَّا يشهدُ بأنَّه مجازٌ.
          قال الزَّجاج: الفراغ في اللُّغة على ضربين: أحدُهما الفراغُ من شغلٍ، والآخر القصدُ لشيءٍ(2) تقول: قد(3) فرغت ممَّا كنتُ فيه، أي: قد زالَ شُغلي به، وتقول: سأتفرَّغ لفلانٍ، أي: سأجعلُه قصدِي. قال الطِّيبيُّ في «حاشيته على الكشاف»: فهو محمولٌ على مجرَّد القصدِ، فهو كنايةٌ عن التَّوفُّر على النِّكايةِ، ثمَّ استُعيرتْ(4) هذه العبارة للخالقِ جلَّ جلالُه وعزَّ شأنُه لذلك المعنى، وإليه الإشارة بقولهِ تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}[الرحمن:31] مستعارٌ من قول الرَّجل لمن يتهدَّده: سأفرغُ لك. والوجه الآخر منزَّلٌ على الفراغِ من الشُّغل، لكن على سبيل التَّمثيل شبَّه تدبيرهُ تعالى أمرَ الآخرةِ من الأخذ في الجزاءِ وإيصالِ الثَّواب والعقابِ إلى المكلَّفين بعد تدبيرهِ تعالى لأمر الدُّنيا بالأمرِ والنَّهي، والإماتةِ والإحياءِ، والمنعِ والعطاءِ، وأنَّه سبحانه وتعالى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ بحال من إذا كان في شغلٍ يشغلهُ عن شغلٍ آخر إذا فرغَ من ذلك الشُّغل‼ شرع في آخر، وقد ألمَّ به صاحب «المفتاح» حيثُ قال: الفراغُ الخلاص من المهام، والله تعالى لا يشغلُه شأنٌ عن شأنٍ وقع مستعارًا للأخذِ في الجزاءِ وحدَه. وهو المرادُ من قولهِ(5): وقعَ ذلك فراغًا إلى طريقِ المثل (قَالَتِ الرَّحِمُ) بلسانِ الحال، أو بلسانِ المقال(6)، وعلى الثَّاني هل يخلقُ(7) الله فيها حياةً وعقلًا؟ وحملَه القاضِي عياض على المجازِ، وأنَّه من ضربِ المثلِ، لكن في حديثِ عبد الله بن عَمرو عند أحمد أنَّها تكلَّمتْ بلسانٍ طَلْقٍ ذَلْقٍ. وزاد في «سورةِ القتال»: «قامتِ الرَّحم فأخذتْ بِحَقْوِ الرَّحمن» [خ¦4830] وهو استعارةٌ أيضًا سبقَ ذكرها في السُّورة المذكورة، وزاد أيضًا في السُّورة: «فقال: مَهْ، فقالت» [خ¦4830]: (هَذَا مَقَامُ العَائِذِ) أي: قيامِي هذا قيامَ المستجيرِ (بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ. قَالَ) الله تعالى: (نَعَمْ أَمَا) بتخفيف الميم (تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ) بأن أتعطَّف عليه وأرحمَه (وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ) فلا أرحمَه (قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ) رضيتُ، ولأبي ذرٍّ: ”بلى وربِّ“ (قَالَ) تعالى: (فَهْوَ) أي: قوله: «أصلَ من وصلك...» إلى آخره، (لَكِ) بكسر الكاف.
          قال أبو هريرة: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}[محمد:22]) وهذا الحديثٌ مرَّ في تفسير «سورةِ القتال» [خ¦4830].


[1] في (ع) و(ص) و(د): «أبو».
[2] في (د): «بشيء».
[3] قوله: «قد»: ليس في (د).
[4] في (د): «استعير»، كذا في حاشية الطيبي.
[5] في (د) وهامش (ل) من نسخة: «بقوله».
[6] في (ع): «القال».
[7] في (د) و(ع): «خلق».