الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم

          ░12▒ (باب: ذكر الجنِّ وثَوابِهم وعِقَابِهم...) إلى آخره
          كتب الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع»: لمَّا كان الباب المعقود قبل ذلك يوهم أنَّ الجنَّ ليس منهم إلَّا الشَّرُّ، لأنَّ الشَّيطان هو الجنُّ دفعه بأنَّهم مكلَّفون مثلَ الإنس، فمطيعُهم مُثابٌ وعاصيهم معذَّب، والشَّيطان وإن كان منهم فإنَّه رُجم لشيطنته وعصيانه لا لكونه مِنَ الجنِّ. انتهى.
          وفي «هامشه»: قال الحافظ أشار بهذه التَّرجمة إلى إثبات وجود الجنِّ وإلى كونهم مكلَّفين، وأمَّا إثبات وجودهم فقد نقل إمام الحرمين عن كثير مِنَ الفلاسفة والزَّنادقة والقدريَّة أنَّهم أنكروا وجودهم رأسًا، قال: ولا يُتَعجَّب ممَّن أنكر ذلك مِنْ غير المشرِّعين، إنَّما العجب مِنَ المشرِّعين مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة، قال: وليس في قضيَّة العقل ما يقدح في إثباتهم.
          قال القاضي أبو بكر: وكثير مِنْ هؤلاء يثبتون وجودهم وينفونه الآن، ومنهم مَنْ يثبتُهم وينفي تسلُّطهم على الإنس.
          وقال عبد الجبَّار المعتزليُّ: الدَّليل على إثباتهم السَّمع دون العقل، إلى آخر ما بسط الحافظ في وجودهم، وفي أيِّ شيء خلقوا؟ وفي أنَّهم هل يأكلون ويشربون ويتناكحون أم لا؟ وبسط الكلام على ذلك في «الأوجز».
          ثم قال الحافظ: وأمَّا كونهم مكلَّفين فقد قال ابن عبدِ البرِّ: الجنُّ عند الجماعة مكلَّفون، وقال عبد الجبَّار: لا نعلم خلافًا بين أهل النَّظر في ذلك إلَّا ما حكى(1) عن بعض الحشويَّة أنَّهم مضطرُّون إلى أفعالهم، وليسوا بمكلَّفين... إلى آخر ما بسط مِنَ الاختلاف، في أنَّه هل كان فيهم نبيٌّ أم لا؟ مع اتِّفاقهم على أنَّ نبيَّنا صلعم بُعث إلى الجنِّ والإنس، وهذا ممَّا فُضِّل به على الأنبياء، وأمَّا قول المصنِّف: (وثوابهم وعقابهم) فلم يختلف مَنْ أَثبت تكليفهم أنَّهم يُعاقَبون على المعاصي، واختُلف هل يثابون؟ فروى الطَّبَريُّ وابن أبي حاتم مِنْ طريق أبي الزِّناد موقوفًا، قال: إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ وأهلُ النَّارِ النَّارَ، قال الله لمؤمن الجنِّ وسائر الأمم_أي مِنْ غير الإنس_ كونوا ترابًا، فحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا، وروى ابن أبي الدُّنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجنِّ أن يجاروا مِنَ النَّار، ثمَّ يقال لهم: كونوا ترابًا، ورُوي عن أبي حنيفة نحو هذا القول، وذهب الجمهور إلى أنَّهم يثابون على الطَّاعة، وهو قول الأئمَّة الثَّلاثة والأوزاعيِّ وأبي يوسف ومحمَّد، ثمَّ اختلفوا هل يدخلون مَدخل الإنس على أربعة أقوال:
          أحدها: نعم، وهو قول الأكثر.
          وثانيها: يكونون في ربض الجنَّة، وهو منقول عن مالك وطائفة.
          وثالثها: أنَّهم أصحاب الأعراف.
          ورابعها: التَّوقُّف عن الجواب، ثمَّ ذكر دلائل الجمهور، وبسط العينيُّ أيضًا أبحاثًا عديدة في مسائل الجنِّ... إلى آخر ما بسط في «هامش اللَّامع»، وفيه أيضًا: وعُلِمَ مِنْ ذلك أنَّ ما قرَّره الشَّيخ مبنيٌّ على مسلك الجمهور بخلاف المعروف عن الإمام أبي حنيفة، ولعلَّ مأخذ قول الإمام ما(2) في سورة الأحقاف: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] فإنَّه مرتَّب فيه على الإيمان، وإجابة داعي الله الإجارة مِنَ النَّار فقط. انتهى.
          ونُقل عن الإمام التَّوقُّف أيضًا، كما سيأتي في الباب الآتي.


[1] في (المطبوع): ((حُكي)).
[2] قوله: ((ما)) ليس في (المطبوع).