الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ما جاء في سبع أرضين

          ░2▒ (باب: ما جَاء في سَبْعِ أَرَضِين)
          قال الحافظان ابنُ حَجَرٍ والعَينيُّ: أي: في بيان وضعها، ولفظ القَسْطَلَّانيِّ في «شرحه» أي: في وصفها، ولا يبعد عند هذا العبد الضَّعيف أنَّ الإمام البخاريَّ ⌂ : ترجم بسبع أرَضين إشارة إلى الاختلاف الوارد في العدد وبتَّ الحكم لقوَّة الدَّليل عنده.
          فقد قال الحافظ: قوله: (وقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية [الطَّلاق:12]) قال الدَّاوديُّ: فيه دلالة على أنَّ الأرَضِين بعضها فوق بعض مثل السَّماوات، ونُقِل عن بعض المتكلَّمين أن المِثْلِيَّة في العدد خاصَّة، وأنَّ السَّبع متجاورة، وحكى ابن التِّين عن بعضهم أنَّ الأرض واحدة، قال: وهو مردود بالقرآن والسُّنَّة، قلت: ولعلَّه(1) القول بالتَّجاور، وإلَّا فيصير صريحًا في المخالفة، ويدلُّ للقول الظَّاهر ما رواه ابن جرير عن ابن عبَّاسٍ في هذه الآية {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية(2) [الطَّلاق:12]، قال: ((في كل أرض مثل إبراهيم، ونحو ما على الأرض مِنَ الخلق)) هكذا أخرجه مختصرًا وإسناده صحيح، أخرجه(3) الحاكم والبيهقيُّ مطوَّلًا وأَوَّلُه: ((أي: سَبْعَ أَرَضِين في كل أرضٍ آدمُ كآدَمِكُمْ، ونوح كنُوحِكُم، وإبراهيم كإبراهِيْمِكُم، [وعيسى كعيسى] ونبيٌّ كنَبِيِّكُم)) قالَ البَيْهَقيُّ: إسناده صحيح إلَّا أنَّه شاذٌّ بِمَرَّة، وروي ابن أبي حاتم مِنْ طريق مجاهد عن ابن عبَّاسٍ قال: ((لو حَدَّثْتُكُم بتفسِير هَذِه الآية لكَفَرْتُم، وكُفْرُكُم تَكْذِيبُكُم بها)) ومِنْ طريق سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاسٍ نحوه. انتهى مختصرًا. / قلت: ولشيخ مشايخنا مولانا محمَّد قاسم النَّانوتويِّ مؤسس دار العلوم بديوبند رسالةٌ مستقلَّة باللُّغة الأرديَّة اسمها: «تحذير النَّاس مِنْ إنكار أثر ابن عبَّاسٍ» وذكر في آخره: أنَّه بسط الكلام على ذلك في رسالتين له أخريين:
          أحدهما: «الآيات البيِّنات على وجود الأنبياء في الطَّبقات».
          والثَّانية «دافع الوسواس لأثر ابن عبَّاسٍ». انتهى.
          قلت: وبعين ما ترجم به الإمام البخاريُّ ترجم الحافظ ابن كثير في «البداية والنِّهاية» وقال: باب: ما جاء في سبع أرضين، ثمَّ ذكر فيه عدة أحاديث، ثمَّ قال: فهذه الأحاديث كالمتواترة في إثبات سبع أرضين، والمراد بذلك: أنَّ كلَّ واحدة فوق الأخرى، والَّتي تحتها في وسطها عند أهل الهيئة حتَّى ينتهي الأمر إلى المسابعة(4) وهي السَّماء لا جوف لها... إلى آخر ما قال.
          قلت: وما أيَّد الحافظ القول الظَّاهر بأثر ابن عبَّاسٍ المذكور لا حاجة إلى ذلك، فإنَّ روايات هذا الباب كلَّها صريحة في الدِّلالة على الظَّاهر، لأنَّ الغاصب شبرًا مِنَ الأرض إذا يطوَّق إلى سبع أرَضين أو يخسف إلى سبع أرضين، فلا بدَّ أن تكون بعضهنَّ فوق بعض.
          وكتب مولانا محمَّد حسن المكِّيُّ في «تقريره» تحت الباب: بأنَّها مخلوقة لله تعالى ليست بقديمة، والغرض مِنْ هذه الأبواب عدُّ مخلوقات الله تعالى مِنَ الصَّغير والكبير والشَّريف والرَّذيل ممَّا نقل فيه الأحاديث الصَّحيحة عنده.
          ولا يبعد عندي أيضًا أنَّ في تبويب الإمام البخاريِّ ⌂ بالأرَضين وتخصيصها بما ذكر(5) مع تقدُّم ذكر السَّماوات على الأرض في الآية الكريمة إشارة لطيفة إلى مسألة أخرى خلافيَّة أيضًا، وهي اختلافهم في التَّفضيل بين السَّماء والأرض، ففي «الفتاوى الحديثيَّة» لابن حَجَر المكِّيِّ: وسئل نفع الله به: أيُّهما(6) أفضل السَّماء أو الأرض؟ فأجاب بقوله: الأصحُّ عند أئمَّتنا ونقلوه عن الأكثرين: السَّماء لأنَّه لم يُعصَ اللهُ فيها، ومعصية إبليس لم تكن فيها، أو وقعت نادرًا فلم يُلْتفت إليها، وقيل: الأرض، ونُقِل عن الأكثرين [أيضًا] لأنَّها مستقرُّ الأنبياء ومدفنهم. انتهى.
          وفي «الشَّرح الكبير» للمالكيَّة: الأكثر على أنَّ السَّماء أفضل، والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى.
          وقال القاري في «شرح المناسك» في بحث التَّفضيل بين مكَّة والمدينة: والخلاف فيما عدا موضع القبر المقدَّس، فما ضم أعضاءه الشَّريفة فهو أفضل بقاع الأرض بالإجماع، حتَّى مِنَ الكعبة ومِنَ العرش على ما صرَّح به بعضهم، وقد صرَّح التَّاج الفاكهيُّ بتفضيل الأرض على السَّماوات لحلوله صلعم بها، وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، وقالَ النَّوويُّ: الجمهور على تفضيل السَّماء. انتهى مختصرًا.
          قلت: ومال شيخ مشايخنا مولانا محمَّد قاسم النَّاوتويُّ قُدِّس سرُّه في قصيدته المدحيَّة في شأنه صلعم المطبوع باسم «قصيدة بهائيَّة» إلى أفضليَّة الأرض على السَّماء.


[1] في (المطبوع): ((لعله)).
[2] قوله: ((الآية)) في (المطبوع).
[3] في (المطبوع): ((وأخرجه)).
[4] في (المطبوع): ((السابعة)).
[5] في (المطبوع): ((وتخصيصها بالذكر)).
[6] في (المطبوع): ((أيما)).