التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب قول الله تعالى: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا}

          قوله: (قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}... إلى قوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم:2-7]): يعني: يحيى، أمَّا (زكريَّا) أبو يحيى النَّبيُّ صلَّى الله عليهما وسلَّم(1)؛ ففيه خمسُ لُغَات؛ أشهرها: زكريَّاء؛ بالمدِّ، والثانية بالقصر، وقُرِئ بهما في السبع، والثالثة والرابعة: زَكَريْ وزَكَرِيُّ، حكاهما ابن دريد وآخرون، وحكاهما من المُتَأخِّرين الجواليقيُّ، والخامسة: زَكَرٌ؛ كـ(قَلَمٍ)، حكاها أبو البقاء، وهو اسم أعجميٌّ، ذكره الله ╡ في آياتٍ من كتابه وأثنى عليه، وفي «صحيح مسلم»: (أنَّه كان نجَّارًا)، وهذه من الفضائل؛ لقوله صلعم في «صحيح البُخاريِّ»: «أفضل ما أكل الرَّجُلُ مِن عمل يده» [خ¦2072]، قال أهل التواريخ: كان زكريَّاء من ذريَّة سليمان بن داود، وقُتِل زكريَّا بعد قتل ابنه يحيى صلوات الله عليهما وسلامه.
          وأمَّا (يحيى)؛ فلفظ (يحيى) لفظٌ عجميٌّ، وأسماء الأنبياء كلُّها أعجميَّة إلَّا أربعةً: آدمَ، وصالحًا، وشعيبًا، ومُحَمَّدًا(2)، وقد تَقَدَّمَ الكلام على (آدم) هل هو مصروفٌ أم لا في أوَّل هذا التعليق [خ¦101]، قال الواحديُّ: «يحيى» لا ينصرف، عربيًّا كان أو أعجميًّا؛ لأنَّه لو كان عربيًّا؛ لامتنع؛ لشَبَه الفعل مع التعريف، قال العلماء: أوَّل من سُمِّيَ يحيى: يحيى بن زكريَّا، قال الله تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}، قال الواحديُّ: قال المفسِّرون: أوَّل من آمن بعيسى يحيى، وكان يحيى أسنَّ من عيسى، قال العلماء بالتاريخ: قُتِل يحيى قبل أبيه زكريَّا، كما قدَّمتُه، وفضائل يحيى في القرآن مشهورةٌ، وثبت في «البُخاريِّ» و«مسلم» في حديث الإسراء أنَّه ╕ قال: «فإذا أنا بابنَي الخالة عيسى ويحيى، فرحَّبا ودعوَا لي بخير» [خ¦3430].
          تنبيهٌ: الحديثُ الذي رواه أبو يعلى المَوْصِليُّ بسنده إلى ابن عَبَّاس ☻: أنَّ رسول الله صلعم قال: «ما مِن أحدٍ مِن ولدِ آدَمَ إلَّا قد أخطأ أو همَّ بخطيئةٍ ليس يحيى بنَ زكريَّا»؛ ضعيفٌ؛ لأنَّ في سنده عليَّ بن زيد ابن جُدعان، ويُوسُف بن مِهْرَان مختلفٌ فيه.
          قال الثعلبيُّ: (كان مولد يحيى قبل عيسى بستَّة أشهرٍ)، قال: (وقال الكلبيُّ: كان زكريَّا يوم بُشِّر بالولد ابنَ ثنتين وتسعين سنةً، وقيل: تسع وتسعين سنةً(3)، وعن الضَّحَّاك عن ابن عَبَّاس: كان ابنَ عشرين ومئة سنةٍ، وكانت امرأته بنتَ ثمانٍ وتسعين سنةً)، قال: (وقال كعب الأحبار: كان يحيى حسنَ الصورة والوجه، ليِّنَ الجناح، قليلَ الشَّعرِ، قصيرَ الأصابع، طويلَ الأنف، مقرونَ الحاجبين، رقيقَ الصوتِ، كثيرَ العبادةِ، قويًّا في طاعة الله تعالى، وساد الناسَ في عبادة الله تعالى وطاعتِه)، وقال في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم:12]: (قيل: إنَّ يحيى قال له أقرانُه من الصبيان: اذهب بنا نلعبْ، فقال: ما لِلَّعِبِ خُلِقنا)، قال: (وقيل: إنَّه نُبِّئ صغيرًا، وكان يَعِظ الناس ويقف لهم في أعيادهم ومجامِعهم، ويدعوهم إلى الله تعالى، ثُمَّ ساح يدعو الناسَ، ولمَّا بعثه الله ╡ إلى بني إسرائيل؛ أمره أن يأمرَهم بخمسِ خِصالٍ؛ وهي: عبادة الله تعالى لا يشركون به(4)، والصلاة، والصدقة، وذكر الله، والصيام، واتَّفقوا على أنَّه قُتِل ظلمًا، وأُخِذ رأسه ووضع في طَسْتٍ، وغضب الله على قاتليه، وسلَّط عليهم بُختَنصَّر وجيوشَه، فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا).
          تنبيهٌ: قوله في ترجمته: (قيل: إنَّه نُبِّئ صغيرًا) فيه نظرٌ، وإنَّما {الْحُكْمَ}: اللبُّ، أو الفهم، أو العلم، أو الحكمة _وقيل: المعرفة، أو توفيقٌ [لاستعمال] آداب الخدمة، أو الفراسة الصادقة، وقيل: مَن أُوتِيَ القرآنَ قبل الاحتلام؛ فقد أُوتِيَ الحكمَ صبيًّا_ قال ابن عبد السلام العلَّامة عزُّ الدين: [وذلك أنَّ الصبيان قالوا له: تعالَ نلعبْ، فقال: ما لِلَّعِب خُلِقنا، انتهى].
          وقيل: النبوَّة، [قال ابن العربيِّ]: وجائزٌ أنَّ الله ╡(5) يوحي إلى الصغير، ويكاشفه بملائكته وأَمْرِه، ويُرْسَل إلى الخلق كاملَ العقل والعلم مؤيَّدًا بالمعجزة، لكن لم يرد بذلك خبرٌ، ولا كان فيمن تَقَدَّمَ.
          وقد ذكر ابن قَيِّمِ الجَوزيَّة في «الهَدْي» في (المبعث): (والأربعون سنُّ الكمال، قيل: ولَها تُبعَث الرسل)، قال: (وأمَّا ما يُذكَر عن عيسى ابن مريم المسيحِ: أنَّه رُفِع إلى السماء وله ثلاثٌ وثلاثون سنةً؛ فهذا لا يُعرَف به(6) أثرٌ متَّصل يجب المصير إليه)، انتهى.
          تنبيهٌ: ورأيت في «مسند أبي يعلى المَوْصِليِّ» من حديث فاطمةَ بنتِ رسولِ الله صلعم قالت: قال لي رسولُ الله صلعم: «إنَّ عيسى ابنَ مريم مكث في بني إسرائيل أربعينَ سنةً»، رواه أبو يعلى عن الحسين ابن الأسود _وهو الحسين بن عليِّ بن الأسود(7) العِجْليُّ قال أبو حاتمٍ: (صدوقٌ)، وذكره ابن حِبَّانَ في «الثقات»، وقال ابن عديٍّ: (كان يسرق الحديثَ، وأحاديثه لا يُتابَع عليها)، وقال الأزديُّ: (ضعيف جدًّا)_ عن عمرو بن مُحَمَّد العنقزيِّ _وثَّقهُ أحمدُ والنَّسائيُّ، وعلَّق له البُخاريُّ، واحتجَّ به مسلمٌ_ عن ابن عُيَيْنَة _وناهيك به_ عن عَمرو بن دينار _وكذلك هذا_ عن يحيى بن جعدة _وهو ثقةٌ، وثَّقهُ أبو حاتمٍ والنَّسائيُّ_ فهذا سندٌ لم يُتَكلَّم في أحدٍ منهم إلَّا شيخ أبي يعلى، وقد اختُلِف في توثيقه، وقد قدَّم الذَّهَبيُّ في «ميزانه» توثيقَه على كلام ابنِ عَدِيٍّ وغيرِه، وكذا في «تذهيبه»، والله أعلم، لكنَّ يحيى بن جَعْدة ما أظنُّه أدرك فاطمة بنتَ رسول الله صلعم، وقد صرَّحوا بأنَّه أرسل عن أبي بكر، قال أبو زرعة: (مرسلٌ)، وقال أبو حاتمٍ: (لم يلقَ ابنَ مسعودٍ)، انتهى، وإذا كان أرسل عن الصِّدِّيق؛ فالأحرى والأولى ألَّا يكون أدرك فاطمةَ، والله أعلم، فيحتمل قوله ╕: «مكث فيهم أربعين سنةً(8)»؛ يعني: بعد النبوَّة، ويحتمل أن يكون قبل أن يتنبَّأ، والله أعلم.
          قوله: ({عَاقِرًا}[مريم:5]: الذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ): كذا هو، قال الجوهريُّ: (والعاقر: المرأة التي لا تحبل، ورجلٌ عاقر أيضًا: لا يُولَد له) انتهى.


[1] في (ب): (◙).
[2] في (ب): (آدم وصالح وشعيب ومُحَمَّد صلوات الله عليهم وسلامه)، وتقدَّم أنَّ هؤلاء نصَّ عليهم الجواليقيُّ في «المُعرَّب» (ص102▒، وقد ذكر غيره بدل (آدم) (هود)، انظر «شرح قطر الندى» (ص567_568▒، «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» ░1/287▒.
[3] (وقيل: تسع وتسعين سنةً): سقط من (ب).
[4] (به): سقط من (ب).
[5] في (ب): (تعالى).
[6] في (ب): (له).
[7] (وهو الحسين بن عليِّ بن الأسود): سقط من (ب).
[8] (سنة): ليس في (ب).