التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: في الهبة والشفعة

          ░14▒ بَابٌ فِي الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ وَهَبَ هِبَةً أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ، وَاحْتَالَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَخَالَفَ الرَّسُولَ صلعم فِي الْهِبَةِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ.
          6975- ثمَّ ساقَ حديثَ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻: (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ).
          وحديثَ جابرٍ ☺: (إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلعم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ). وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الشُّفْعَةُ لِلْجِوَارِ. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى مَا شَدَّدَهُ فَأَبْطَلَهُ، فَقَالَ: إِنِ اشْتَرَى دَارًا فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَهَا جَارُهُ بِالشُّفْعَةِ، فَاشْتَرَى سَهْمًا مِنْ مِئَةِ سَهْمٍ ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِيَ، فإنَّ لِلْجَارِ الشُّفْعَةُ فِي السَّهْمِ الأوَّلِ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِي بَاقِي الدَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ فِي ذَلِكَ.
          ثمَّ ساقَ حديثَ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ السَّالفَ في الشُّفْعَةِ، وفيه: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) [خ¦2258]. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبُ البَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الدَّارَ وَيَحُدُّهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ وَيُعَوِّضُهُ المُشْتَرِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ.
          ثمَّ ساقَ حديثَ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ أَيْضًا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: مَنِ اشْتَرَى نَصِيبَ دَارٍ فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ.
          ░15▒ بَابُ احْتِيَالِ الْعَامِلِ لِيُهْدَى لَهُ
          6979- ساقَ فيه حديثَ أَبِي حُمَيدٍ السَّاعدِيِّ فِي قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ الآتي قريبًا في: الأحكامِ [خ¦7174].
          وحديثَ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ السَّالِفَ مختصرًا، عن أبي رافِعٍ: (الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) [خ¦6977] [خ¦6978].
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاس: مَنِ اشْتَرَى دَارًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا، فيَنْقُدَهُ تِسْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَتِسْعَمِائَةِ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَيَنْقُدَهُ دِيْنَارًا بِمَا بَقِيَ / مِنْ الْعِشْرِينَ أَلْفًا، فَإِنْ طَلَبَ الشَّفِيعُ أَخْذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِلَّا فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الدَّارِ، فَإِنِ اسْتُحِقَّتْ الدَّارُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمَا دَفَعَ إِلَيْهِ، وَهُوَ تِسْعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَتِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِيْنَارٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ حِينَ اسْتُحِقَّ انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي الدِّينَارِ، فَإِنْ وَجَدَ بِهَذِهِ الدَّارِ عَيْبًا وَلَمْ تُسْتَحَقَّ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَم. فَأَجَازَ هَذَا الْخِدَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (بَيْعُ الْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا خِبْثَةَ وَلَا غَائِلَةَ).
          6980- ثمَّ ساقَ حديثَ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، أَنَّ أَبَا رَافِعٍ سَاوَمَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بَيْتًا بِأَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالٍ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) مَا أَعْطَيْتُكَ.
          الشَّرحُ: إذا وَهَبَ الواهِبُ هِبةً وقَبَضَها الموهوب له وحازها فهو مالكٌ لها عند الجميع والزَّكاةُ له لازمةٌ، ولا سبيل له إلى الرُّجوع فيها إلَّا أن تكون على ابنٍ، وهذه حيلةٌ لا يمكن أن يُخالِف فيه نصَّ الحديثِ لأنَّ الزَّكاةَ تَلْزَمُ الابنَ في كلِّ حوْلٍ ما لم تُعتَصَرْ منه، وإن كان صغيرًا عند الحجازيِّين لأنَّه مالكٌ، فإذا اعتصَرَها بعدَ حلولِ الحَوْل عليها عندَ الموهوبِ له وجبت الزَّكاةُ على الموهوب له، ثمَّ يَستأنِفُ الرَّاجعُ فيها حولًا مِن يوم رجوعِه، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء فلا معنى للاشتغالِ بما خالفه.
          قال المُهَلَّب: والاحتيالُ في هذا خارجٌ عن معنى الشَّريعة، ومَن أراد أن يحتالَ على الشَّريعةِ حتَّى يُسقِطَها فلا يُسمَّى محتالًا وإنَّما هو معانِدٌ لحدودِ اللهِ ومنتهِكٌ لها، فإذا كانتِ الهِبَةُ لِغيرِ الابنِ دَخَلَ الرَّاجعُ فيها تحت الحديث: ((العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ)) ولا أعلم لِحيلتِه وجهًا، إلَّا إنْ كان يريدُ أن يَهَبَها ويحتالَ في حبْسِها عندَه دون تحويزٍ فلا تَتِمُّ حيلتُه في هذا إنْ وَهَبَها لأجنبيٍّ؛ لأنَّ الحيازة عنده شرطٌ في صِحَّةِ الهِبة، فإن ثبتتْ عندَه كانتْ على مِلْكِه ووجبتْ عليه زكاتُها. وقدَّمْنا وجهَ قولِه: إنَّ مذهبَه الرُّجوعُ فيما وَهَبَهُ لِأجنبيٍّ، فلا يرجع فيما وَهَبَهُ لابنِه. وقد سَلَفَ في بابِه حديثُ النُّعمانِ وغيرِه في ذلك.
          فَصْلٌ: مَن له على رَجُلٍ ذهبٌ حَالَ عليه الحولُ فوهبَها له فلا زكاةَ على الواهب، فإنْ لم يكن عند الموهوب له غيرُها فلا زكاةَ عليه عند ابنِ القاسم، وقال غيرُه: يُزكِّي، فإنْ وَهَبَها لِغيرِ مَن هي عليه فقال ابنُ القاسم: لا يزكِّيها كالواهب. وقال مُحَمَّدٌ: يزكِّي منها وكأنَّه وهبَ بعد الزكاة. وقال أشهبُ: لا زكاةَ على واحدٍ منهما.
          فَصْلٌ: وأمَّا مسألةُ الشُّفْعَة فالَّذي احتالَ أبو حنيفةَ فيها له وجهٌ مِن الفقه، وذلك أنَّ مُريدَ شراءِ الدارِ خافَ شُفْعَةَ الجارِ فسأل أبا حنيفةَ: هل مِن حيلةٍ في إسقاطِها؟ فقال: لو باع منك صاحبُ الدَّارِ جزءًا مِن مئةٍ مُشاعًا، ثمَّ اشتريتَ منه بعد حينٍ باقي الدَّارَ سَقَطَتْ شُفْعَةُ الجار. يريدُ أنَّ الشَّريكَ في المُشاعِ أحقُّ بالشُّفْعَةِ مِن الجار، وهذا إجماعٌ مِن العلماء، فلمَّا اشترى أوَّلًا الجزءَ اليسيرَ صار شريكًا لصاحبِ الدَّارِ، إذْ لم يَرْضَ الجارُ أنْ يشفَعَ في ذلك الجزءِ اللَّطيفِ لِقِلَّةِ انتفاعِه به، فلمَّا عقَدَ الصَّفقةَ في باقيها كان الجارُ لا شُفْعَةَ له عليه لأنَّه لو مَلَكَ ذلك الجزءَ اللَّطيفَ غيرُه لَمَنَعَ الجارَ به مِن الشُّفْعَة، فكذلك يمنعُهُ هو _إذا اشترى باقِيَها_ مِن الشُّفْعَة، وهذا ليس فيه شيءٌ مِن خلافِ السُّنَّةِ، وإنما أراد البُخَارِيّ أن يُلْزِمَ أبا حنيفةَ التناقُضَ لأنَّه يوجِبُ الشُّفْعَة للجارِ ويأخذُ في ذلك بحديثِ: (الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) فمنِ اعتقد مِثْلَ ذلك وثبتَ ذلك عنده مِن قضائِه ◙ وتحيَّلَ بمِثْلِ هذِه الحيلةِ في إبطَالِ شُفْعَةِ الجارِ فقد أبطَلَ السُّنَّةَ الَّتي يَعتقدُها.
          فَصْلٌ: في حديثِ جابرٍ ☺: (إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ) ما يرُدُّ قولَ مَن أجازَ الشُّفْعَةَ للجارِ لأنَّ الجارَ قد حدَّد مالَه مِن مالِ جارِهِ ولا اشتراكَ له معه، وهذا ضدُّ قولِ مَن قال: الشُّفْعَةُ للجارِ، وقولُه: (الشُّفْعَةَ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ) تنفي الشُّفْعَةَ في كلِّ مقسومٍ، وحديثُ عَمْرِو بنِ الشَّرِيد حجَّةٌ في أنَّ الجارَ المذكورَ في الحديثِ هو الشَّرِيكُ، وعلى ذلك حَمَلَهُ أبو رافِعٍ وهو أعلمُ بمَخْرَجِ الحديث. ومذهبُ مالكٍ أنَّه إذا كان لِرَجُلٍ بيتٌ في دارٍ فباعه فلا شُفْعةَ لصاحبِ الدَّارِ. وقال الدَّاوُدِيُّ: إنَّما أرادَ حقَّ الدَّارِ ليسَ الشُّفْعةَ الواجبةَ لِقولِ اللهِ تعالى: {وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى} [النساء:36].
          فَصْلٌ: والصَّقَبُ _بالتَّحريكِ بالصَّادِ والسِّينِ_ القُرْبُ. وقولُه: (إِمَّا مُقَطَّعَةٍ وَإِما مٍنجَّمَةٍ) وهما واحدٌ أي يؤدِّي نُجُومًا نُجُومًا.
          فَصْلٌ: وأمَّا قولُ أَبِي حنيفةَ: (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ) (فَيَهَبُ البَائِعُ لِلْمُشْتَرِي...) إلى آخرِه، وهذِه حيلةٌ في إبطالِ الشُّفْعَةِ _كما قال ابنُ بطَّالٍ_ لا يُجيزُها أحدٌ مِن أهلِ العِلْم، وهي منتقضةٌ على أصلِ أبي حنيفةَ لأنَّ الهِبَةَ إذا انعقدتْ للثَّوابِ فهي بيعٌ مِن البُيُوعِ عند الكوفيِّين ومالكٍ وغيرِه ففيها الشُّفْعَة، وإن كانت هبةً مقبولةً بغيرِ شَرْطِ ثوابٍ فلا شُفْعَة فيها بإجماعٍ، ومَا انعَقَد عَقْدًا ظاهرًا سالمًا في باطنِه والقصدُ فيه فسادٌ فلا يحِلُّ عند أحدٍ مِن العلماء.
          وذكر ابنُ عبدِ الحَكَمِ عن مالكٍ أنَّه اختلف قولُه في الشُّفْعَةِ في الِهبَةِ فأجازها مرَّةً ثمَّ قال: لا شُفْعَةَ فيها، والَّذي في «المدوَّنة»: لا شُفْعَة فيها.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: وإنَّما ذَكَرَ البُخَارِيُّ في هذِه المسألةِ حديثَ أبي رافعٍ ليعرِّفَكَ أنَّما جعلَه رسولُ الله صلعم حقًّا للشَّفيعِ بقولِه ◙: (الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) فلا يحِلُّ إبطالُه ولا إدخالُ حيلةٍ عليه.
          فَصْلٌ: وأمَّا المسألةُ الَّتي في آخرِ البابِ: (إِنِ اشْتَرَى نَصِيبَ دَارٍ فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ) فبيانُها أنْ يكونَ البائعُ شريكًا مع غيرِه في دارٍ، فيقومُ آخَرُ فيشتري منها نصيبًا ويَهَبُهُ لابْنِهِ ولا يمينَ عليه، وإنَّما قال ذلك لأنَّ مَن وَهَبَ / لِابنِه هِبَةً فقد فعلَ ما يُباحُ فِعْلُهُ، والأحكامُ على الظَّاهرِ لا على التَّوهُّمِ وادِّعاءُ الغيبِ على البيانِ، وذَكَرَ ابنُ الموَّازِ عن مالكٍ: إنْ كانَتْ للثَّوابِ ففيه الشُّفْعَةُ؛ يعني لأنَّها بيعٌ مِن البُيُوع، ويحلِفُ المتصدَّقُ عليه إن كان ممَّن يُتَّهَمُ.
          ورَوَى ابنُ نافِعٍ عن مالكٍ في «المجموعة»: يُنظَرُ فإنْ رَأَى أنَّه محتاجٌ وهبَ لأغنياءَ فاليمينُ على الموهوبِ له، وإنْ كان صغيرًا فعلى أبيه الَّذي قَبِلَ له ذلك، وإن كان مُستغنيًا عن ثوابِهم _وإنَّما وهَبَ للقرابةِ والصَّدَاقةِ_ فلا يمينَ في ذلك. وقال الدَّاوُدِيُّ: إنْ عُلِمَ أنَّما فَعَل في هِبَةِ ابنِهِ الصَّغير لِقَطْعِ الشُّفْعَةِ ففيه الشُّفْعَةُ، وإنْ خَفِيَ الأمرُ حُلِّفَ.
          فَصْلٌ: قال ابنُ بطَّالٍ هنا: بابٌ فيه أبو رافِعٍ ☺ (الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) ثمَّ ذَكَرَ مِثَالَ ما إذا اشترى دارًا بعشرين ألف دِرْهَمٍ... إلى آخرِه، ثمَّ ذَكَرَ الحديثَ الأخيرَ وقال: يمكنُ أنْ يبيعَ الشِّقْص مِن صديقٍ له يحِبُّ نَفْعَهُ بعشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ ودِيْنَارٍ، ويَكتبَ له في وثيقةَ الشِّراء عشرينَ ألْفَ دِرْهَمٍ وهو يعلَمُ أنَّ الشَّرِيك لا بُدَّ له أن يقومَ على المشتري بالشُّفْعَة، فإذا وجدَ في وثيقتِه عشرين ألفًا أَخَذَهُ بذلك، فهو قَصْدٌ إلى الخِدَاعِ.
          وقولُه: لِينقدَه دِيْنَارًا بالعشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، إنَّما قال ذلك لأنَّه يجوز عند الأئمَّة بيع الذَّهب بالفِضَّة متفاضلًا كيف شاء، فلمَّا جاز هذا بإجماعٍ بَنَى عليه أصلَه في الصَّرفِ بإجازَةِ عَشَرَةَ دراهمَ ودِيْنَارٍ بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، جَعَلَ العَشَرَةَ بالعشَرَةِ والدِّينارَ بَدَلَ الدِّرْهَمِ. وكذلك جَعَلَ في المسألةِ الدِّينار بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وأوجب على الشَّفيعِ أن يؤدِّيَ ما انعقدت له به الصَّفقةُ دونَ ما نَقَدَ فيها المشترِيَ، كأنَّه قال: مِن حقِّ المشتري أن يقولَ: إنَّما آخُذُ منك أيُّها الشَّفيعُ ما ابتعتُ به الشِّقْصَ لا ما نُقِدْتُ فيه لأنَّه تجاوزٌ مِن البائع بعد عَقْدِ الصَّفقة عمَّا شاء بما وجبتْ له عليه.
          وأمَّا مالكٌ فإنَّما يُرَاعِي في ذلك النَّقْدَ وما حصلَ في يدِ البائعِ فَبِهِ يأخُذُ الشَّفيعِ، ومِن حُجَّتِه في ذلك أنَّه لا خلافَ بين العلماءِ أنَّ الاستحقاقَ والرَّدَّ بالعيبِ لا يُرجع فيهما إلَّا بما نَقَدَ المشتري، وهذا يدلُّ على أنَّ المراعاة في انتقالِ الصَّفقاتِ في الشُّفْعَة وانتقاضِها بالاستحقاقِ والعيوبِ ما نُقِدَ البائعُ في الوجهين جميعًا، وأنَّ الشُّفْعَة في ذلك كالاستحقاقِ، وهذا هو الصَّوابُ.
          وعبارةُ الدَّاوُدِيِّ: إنما يَشفعُ بما نُقِدَ، وفي «المدوَّنة»: إذا اشترى بألْفٍ ثمَّ حطَّه تسعَ مئةٍ فإنْ كان يُشبِهُ أنْ يكونَ ثمنُ الشِّقْصِ عندَ النَّاسِ فإنَّه استَشْفَعَ بها وإلَّا استشفعَ بالألْفِ، قيل: وإن كان يُشبِهُ أنْ يكونَ ثمنُها خمسَ مئةٍ أو ستَّ مئةٍ شَفَعَ بالقيمةِ.
          فَصْلٌ: وأمَّا قولُ البُخَارِيِّ عن أبي حنيفةَ: (فَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الدَّارُ رَجَعَ المُشْتَرِي عَلَى البَائِعِ بِمَا دَفَعَ إِلَيْهِ) فهذا مِن أبي حنيفةَ دالٌّ أنَّه قصَدَ الحيلةَ في الشُّفْعَةِ لأنَّ الأُمَّة مجمِعَةٌ _وأبو حنيفةَ معهم_ على أنَّ البائعَ لا يَرُدُّ في الاستحقاقِ، والرَّدُّ بالعيبِ إلَّا ما قُبض، فكذلك الشَّفيعُ لا يَشفعُ إلَّا بما نَقَدَ المشتري وما قبضَهُ مِنه البائعُ لا بما عَقَدَ. وأمَّا قوله: (لِأَنَّ الْبَيْعَ حِينَ اسْتُحِقَّ انْتَقَضَ صَرْفُ الدِّينَارِ) فلا يُفهم؛ لأنَّ الاستحقاق والرَّدَّ بالعيبِ يوجِبُ نَقْضَ الصَّفَقةِ كلِّها، فلا معنى لِذِكْرِ الدِّينارِ دون غيرِه.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: وجه إدخالِ البُخَارِيِّ حديثَ: (الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) في هذه المسألة، وهو أنَّهُ لَمَّا كان الجارُ أحقَّ بالمبيع وجبَ أن يكونَ أحقَّ أنْ يُرفَقَ به في الثَّمَنِ حتَّى لا يُغبَنَ في شيءٍ، ولا يدخله عُرُوضٌ بأكثرَ مِن قيمتِها، أَلَا ترى أنَّ أبا رافِعٍ لم يأخُذْ مِن سعدٍ ما أعطاه غيرُه مِن الثَّمنِ، ووهَبَهُ لِحَقِّ الجارِ الَّذي أَمَرَ اللهُ بمراعاتِه وحِفْظِه، وحضَّ الشَّارعُ على ذلك.
          فَصْلٌ: وقولُه ◙: (لَا دَاءَ وَلَا خِبْثَةَ وَلَا غَائِلَةَ) دليلٌ على أنَّه لا احتيالَ في شيءٍ مِن بُيُوعِ المسلمين مِن صرْفِ دِيْنَارٍ بأكثرَ مِن قيمتِه ولا غيرِه. قال ابن التِّين: وقرأْنَا: (لَا خِبْثَةَ) بكسْرِ الخاء، وحُكِيَ الضَّمُّ أيضًا. قال الهَرَوِيُّ: الخِبْثُةُ أن يكون البيع غيرَ طَيِّبٍ، والغَائِلةُ أنْ يأتِيَ امرؤٌ أمرًا مِن حيث لا يُدرَى به كالتَّدليس ونحوِه.
          فَرْعٌ ينعطِفُ على ما مضى: اشترَى بألْفٍ وزاد مئةً، شَفَعَ بألْفٍ لأنَّ الزَّائدَ هِبةٌ. قال أشهب: وللمشتري أن يرجِعَ على البائعِ بما زاده بعدَ أن يحلِفَ: ما زاد إلَّا فرارًا مِن الشُّفْعَةِ. وقال عبدُ الملك: يشفَعُ بألفٍ ومئةٍ ولا يُتَّهمُ المشتري، إنْ يريدُ إلَّا صلاحَ البيعِ، وفيه بعْدٌ.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: حيلةُ العاملِ لِيُهدَى إليه إنَّما تكون بأن يضَعَ مِن حقوقِ المسلمين في سعايتِه ما يعوِّضُهُ مِن أَجْلِهِ الموضوعُ له، فكأنَّ الحيلةَ إنَّما هي أنْ وَضَعَ مِن حقوقِ المسلمين ليستجزِلَ لنفْسِه، فاستدلَّ الشَّارعُ على أنَّ الهديَّةَ لم تكنْ إلَّا لِعِوَضٍ فقال: ((فَهَلَّا جَلَسَ في بيتِ أبيهِ وأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أيُهدَى إليه أم لا؟)) فغلَّب الظِّنَّةَ وأوجب أخْذَ الهديَّةِ وضمَّها إلى أموالِ المسلمين.
          فَصْلٌ: فيه أنَّ الهديَّةَ للعامِلِ سُحْتٌ ولا تُمْلَكُ عندنا، وكذا الأمير في إمارتِه شُكْرًا لمعروفٍ صَنَعَه أو تحبُّبًا إليه لأنَّه كآحادِ المسلمين لا فضْلَ له عليهم، لِولايتِه عليهم نال ذلك، فإنِ استأثرَ به فهو سُحْتٌ كما قرَّرناه، والسُّحتُ كلُّ ما يأخذُه العاملُ والحاكمُ على إبطَالِ حقٍّ أو تحقيقِ باطلٍ، وكذلك ما يأخذُه على القضاء بالحقِّ.
          ورُوِي عنه ◙: ((هَدَايا العُمَّالِ _وفي لفظٍ الأمراءِ_ غُلُولٌ)) والغُلولُ بِضَمِّ الغينِ معلومٌ أنَّه للمُوجِفِين ولمن ذُكِرَ معهم، وعلى هذا التَّأويل كانت مقاسمةُ عُمَرَ بن الخطَّاب لعُمَّالِه على طريق الاجتهادِ لأنَّهم خَلَطُوا ما يجبُ لهم في عَمَالَتِهم بأرباحِ تجاراتِهم وسِهَامهم في الفَيْءِ، فلمَّا لم يَقِف عُمَرُ ☺ على حقيقةِ مَبْلَغِ ذلك اجتهدَ فأخَذَ منه نصْفَه، وقد رُوِيَ عن بعضِ السَّلَفِ أنَّه قال: ما عدَلَ مَن تَجَرَ في رعيَّتِه.
          وقد فعله عُمَرُ ☺ أيضًا في المال الَّذي دَفَعَهُ أبو موسى الأشعرِيُّ ☺ بالعراق مِن مالِ الله لِابْنَيْهِ عبدِ اللهِ وعُبَيدِ الله، أرادَ عُمَرُ أنْ يأخُذَ منهم المالَ وَرِبْحَهُ، قال عثمانُ ☺: / لو جعلْتَهُ قِرَاضًا، أي خُذْ منهم نِصْفَ الرِّبْحِ. فَفَعَلَ ورأى أنَّ ذلك صوابٌ. وقد جاء مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ مِن اليمنِ إلى الصِّدِّيقِ بأعبُدٍ له أصابَهم في إمارتِه على اليمنِ، فقال له عُمَرُ ☺: ادْفَعِ الأَعْبُدَ إلى أبي بكرٍ ☺ فأَبَى معاذٌ مِن ذلك، ثمَّ إنَّ معاذًا رأى في المنام كأنَّهُ واقِفٌ على نارٍ يكادُ أنْ يَقَعَ فيها وأنَّ عُمَرَ ♦ أَخَذَ بِحُجْزَتِهِ فَصَرَفَهُ عنها، فلمَّا أصبحَ قال لعُمَرَ: ما ظنِّي إلَّا أنِّي أُعْطِي الأعبُدَ أبا بكْرٍ. فقال له: وكيف ذلك؟ قال: رأيتُ البارحةَ في النَّومِ كذا، وما أظنُّ ما أشرتَ به عَلَيَّ في الأعبُدِ إلَّا تأويلَ الرُّؤيا فَدَفَعها إلى الصِّدِّيق، فرأى أبو بَكْرٍ أنْ يَرُدَّهم فَرَدَّهم فكانوا عند معَاذٍ، فاطَّلع يَّومًا فرآهم يُصَلُّونَ صلاةً حسنةً فأعتقَهم.
          فَصْلٌ: اختلف السَّلفُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] فرُوِيَ عن مَسْرُوقٍ أنَّه سألَ ابنَ مَسْعُودٍ عنه: أهو الرِّشْوةُ في الحكم؟ فقال عبدُ الله: ذلك الكُفْرُ وقرأ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال: ولكنِ السُّحْتُ أنْ يستعينك رجلٌ على مَظْلِمَةٍ إلى إمامٍ فيُهدِي إليك هديَّةً. قال النَّخَعِيُّ: كان يُقالُ: السُّحْتُ الرِّشْوةُ في الحكم. وعن عِكْرِمَةَ مِثْلُه، وفي حديثِ ابنِ عُمَرَ ☻ وثَوْبانَ ☺ أنَّه ◙ قال: ((لعنَ الله الرَّاشِي والمرتشِي)) وفسَّره الحَسَنُ البَصْرِيُّ فقال: لِيُحِقَّ باطلًا أو يُبطِلَ حقًّا، فأمَّا أن يدفَعَ عن مالِه فلا بأس، وهذا خلافُ تأويلِ ابنِ مَسْعُودٍ.
          فَصْلٌ: قولُه في تأويلِ حديثِ أبي حُمَيدٍ: (يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ) الرُّغُاء بالمدِّ صوتُ ذواتِ الخُفِّ، يُقال: رَغَا البعيرُ يَرْغُو رُغَاءً إذا صاحَ، وفي المثَلِ كَفَى برُغَائِها مناديًا. أي إنَّ رُغَاءَ بَعِيره يقومُ مقامَ نِدائه في التَّعرُّضِ للضِّيافةِ والقِرَى.
          وقولُه: (أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ) هو بالخاء المعجمَةِ كذا رُوِّيناه لِقولِه تعالى: {جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148] وهو معروفٌ في صِياحِ الثَّوْرِ، وكذلك الجُؤَارُ بالجيم، قال الجَوْهَرِيُّ عن الأخفشِ: إنَّه قُرِئَ به في الآيةِ. وهو مهموزٌ مثل قولِه: {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].
          وقولُه: (شَاةً تَيْعِرُ) هو بكسرِ العين قال الجَوْهَرِيُّ: يَعَرَتِ الغنمُ تَيْعِرُ بالكسْرِ يُعَارًا بالضَّمِّ، أي صاحت، وأنشد:
عَرِيضٌ أَرِيْضٌ باتَ يَيْعِرُحَوْلَهُ                     وَبَاتَ يُسَقِّينَا بُطونَ الثَّعَالِبِ
          هذا رجلٌ ضافَ رجُلًا وله عَتُودٌ يَيْعِرُ حَوْلَهُ، يقول: فلمْ يذبَحْهُ لنا، وبات يَسقينا لبنًا مَذِيقًا كأنَّه بطونُ الثَّعالبِ لأنَّ اللَّبنَ إذا أُجْهِدَ مَذْقُهُ اخضرَّ، أي كَثُرَ الماءُ في خَلْطِه. وقال الفرَّاء مَرَّةً وابن فارسٍ: لم يَذكر التشديد، قال: واليَعْرُ الجَدْيُ. وعن الخليل: اليَعْرَةُ الشَّاةُ. قال: وهو اليُعَارُ في الحديثِ بغيرِ شكٍّ، والثُغَارُ ليس بشيءٍ وإنَّما هو الثُّغاءُ وهو صوتُ الشَّاة أيضًا، فيجوزُ أنْ يكونَ كَتَبَ الجَرَّةَ بالهمْزِ بعد الألِفِ فصارت راءً. قال: ولا يكون بعدَ هذا ممَّا يُسْتَشْكَل لأنَّه بالثَّاءِ والغينِ المعجمتينِ.
          وقولُ أبي حُمَيدٍ: (بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي) أي أبصرتْ عينايَ رسولَ الله صلعم ناطقًا ورافعًا يديهِ، وسمعتُ كلامَه.
          آخِرُ الحِيَل بِحَمْدِ اللهِ ومَنِّه