التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: في النكاح

          ░11▒ باب فيِ النِّكَاحِ
          6968- ذَكَرَ فيه حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ السَّالِفَ: (لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ) قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: (إِذَا سَكَتَتْ) [خ¦5136].
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ لَمْ تُسْتَأْذَنِ الْبِكْرُ وَلَمْ تَزَوَّجْ فَاحْتَالَ رَجُلٌ فَأَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا، فَأَثْبَتَ الْقَاضِي نِكَاحَهَا وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَطَأَهَا، وَهُوَ تَزْوِيجٌ صَحِيحٌ.
          6969- ثمَّ ساقَ حديثَ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ وَلَدِ جَعْفَرٍ تَخَوَّفَتْ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلِيُّهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَأَرْسَلَتْ إِلَى شَيْخَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ جَارِيَةَ، قَالَا: فَلَا تَخْشَيِنَّ، (فَإِنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِذَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ صلعم ذَلِكَ). قَالَ سُفْيَانُ: وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ، عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ خَنْسَاءَ.
          6970- ثمَّ ساقَ البُخَارِيُّ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: (لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) قَالُوا: كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: (أَنْ تَسْكُتَ). وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا احْتَالَ إِنْسَانٌ بِشَاهِدَيْ زُورٍ عَلَى تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ ثَيِّبٍ بِأَمْرِهَا، فَأَثْبَتَ الْقَاضِي نِكَاحَهَا إِيَّاهُ وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا قَطُّ، فَإِنَّهُ يَسَعُهُ هَذَا النِّكاحُ، وَلَا بَأْسَ بِالْمُقَامِ لَهُ مَعَهَا.
          6971- ثمَّ ساقَ حديثَ عَائِشَةَ ♦: (الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ) / قُلْتُ: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي، قَالَ: (إِذْنُهَا صُمَاتُهَا). وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ هَوِيَ رَجُلٌ جَارِيَةً يَتِيمَةً ثَيِّبًا أَوْ بِكْرًا فَأَبَتْ فَاحْتَالَ فَجَاءَ بِشَاهِدَيْ زُورٍ عَلَى أنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَدْرَكَتْ وَرَضِيَتْ الْيَتِيمَةُ، فَقَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَةَ الزُّورِ وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بُطْلَانَ ذَلِكَ، حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ.
          الشَّرحُ: لا يحلُّ هذا النِّكاحُ للزَّوجِ الَّذي أقامَ شاهِدَيْ زُورٍ على رضا المرأةِ أنَّه تزوَّجَها عند أحدٍ مِن العلماء، وليس حكمُ القاضي بما ظَهَرَ له مِن عدالةِ الشَّاهدينِ في الظَّاهِرِ مُحِلًّا ما حرَّم اللهُ لِقولِه ◙: ((فإنَّما أقطعُ له قِطْعةً مِن النَّارِ)) ولِتحريمِ الله أكْلَ أموالِ النَّاسِ بالباطل، ولا فرقَ بين أكْلِ المالِ الحرام ووطْءِ الفَرْجِ الحرامِ في الإثم.
          قال المُهَلَّب: واحتيالُ أبي حنيفةَ ساقطٌ لِأَمْرِ الشَّارعِ بالاستئذانِ والاستئمارِ عند النِّكاح، وردَّ نِكاحَ مَن تزوَّجتْ كارهةً في حديثِ خَنْساءَ، وقد قال تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] فاشتراطُ اللهِ رضاها في النِّكاح يوجِبُ أنَّه متى عُدم هذا الشَّرْطُ فيه لم يَحِلَّ.
          وإنَّما قاس أبو حنيفةَ مسائلَ هذا البابِ على القاضي إذا حَكَمَ بطلاقِها بشاهدَيْ زُورٍ وهو لا يَعْلَمُ، أنَّه يجوز أن يتزوَّجها مَن لا يعلمُ بُطلانَ هذا النِّكاح، ولا تحرُمُ عليه بالإجماع فكذا يجوزُ أن يتزوَّجها مَن عَلِمَ ولا تحرُمُ عليه. وهذا خطأٌ في القياس، وإنَّما حلَّ تزويجُها لِمَنْ لا يعلَمُ باطنَ أمْرِها لأنَّه جَهِلَ ما دَخَلَ فيه، وأمَّا الزَّوجُ الَّذي أقام شاهدَيِ الزُّورِ فهو عالمٌ بالتَّحريم متعمِّدٌ لرِكُوبِ الإثم فكيف يُقاسُ مَن جَهِلَ شيئًا فأتاه بعُذْرٍ يجهَلُه على مَن تعمَّده وأقدمَ عليه وهو عالمٌ باطنَه.
          ولا خلافَ بين العلماءِ أنَّه مَن أَقْدَمَ على ما لا يحِلُّ له فقد أَقْدَمَ على الحرامِ البَيِّنِ الَّذي قال فيه الشَّارعُ: ((الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ وبينهما أمورٌ مُشتبهاتٌ)) وليس للشُّبهةِ فيه موضعٌ ولا خلافٌ بين الأُمَّة أنَّ رَجُلًا لو أقامَ شاهِدَيْ زُورٍ على ابنتِه أنَّها أَمَتُهُ وحَكَمَ الحاكم بذلك لا يجوز له وطْؤُها، فكذلك الَّتي شهِدَ على نِكاحِها هما في التَّحريمِ سواءٌ.
          والمسألةُ الَّتي في آخِرِ البابِ لا يقولُ بها أحدٌ، وهي خطأٌ كالمسألتينِ المتقدِّمتين، ولا خلافَ في الأموالِ أنَّ الحاكمَ إذا حَكَمَ بما هو في الباطنِ على خلافِ ما حَكَمَ به، لم يَنقُلْ حكمُه في الباطن، وإنَّما ذلك عند أبي حنيفةَ في الطَّلاقِ والنِّكاح والنَّسَبِ، فإنْ شَهِدُوا في أَمَةِ رَجُلٍ أنَّها ابنةُ آخرَ وَحَكَم بذلك ثَبَتَ النَّسَبُ وحَرُمت عليه ووَرِثَتْ. وذَكَرَ في «المعونة» عن أبي حنيفةَ: إذا شَهِدُوا بِزُورٍ على الطَّلاقِ تصيرُ المرأةُ مطلَّقةً بِحُكْمِ الحاكم، ويجوزُ لها أن تتزوَّج، ويجوز لِأَحَدِ شاهدَيِ الزُّورِ أنْ يتزوَّجها، وهو عند مالكٍ زانٍ بِعِلْمِه أنَّه لم يطلِّقْ، وذَكَرَ مسألةَ النِّكاح المتقدِّمَةِ، وزاد عنه: إذا شَهِدَ له شاهدُ الزُّور على ذاتِ مَحْرَمٍ أنَّها زوجتُه أنَّ الحُكْمَ لا يَنْفُذُ في الباطنِ ولا تكونُ زوجتَه، وكذلك إذا أقدمَ شاهدا زُورٍ في دعوى، قال: فيَحْكُمُ الحاكمُ له فإنَّه لا يَنْفُذُ، وفرَّقوا بين الموضعين بِأنَّ كلَّ موضعٍ جازَ أن يكون للحاكمِ ولايةٌ في ابتداءِ فِعْلِه نَفَذَ حُكمُه فيه ظاهرًا وباطنًا، وكلُّ موضعٍ لا ولاية له في ابتداءِ فِعْلِه لم ينفُذ ظاهرًا دون الباطن، كان للحاكم ولايةٌ في عَقْدِ النِّكاح وفي أن يُطلِّق على غيرِه، ولا ولاية له في تزويج ذواتِ المحارِم ولا في نَقْلِ الأموالِ، فكذلك لوِ ادَّعى على رجلٍ أنَّه قَتَلَ وليًّا له وأقامَ شاهدَيْ زُورٍ فَحَكَمَ الحاكمُ بالقَوَدِ لم يكن لمن حُكِمَ له أن يَقتُلَ؛ لأنَّ الحاكم ليس له أن يفتدي القَتْلَ.
          قال: ودليلُنا قولُه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء:24] فحرَّم المُحْصَنةَ، وهي الَّتي لها زوجٌ إلَّا إنْ مَلَكَ الكوافِرِ بالسَّبيِّ، وعند المخالفِ أنَّ الَّتي لها زوجٌ تَحِلُّ بحُكْمِ الحاكم بشهادةِ زُورٍ بطلاقِها، والحديثُ السَّالِفُ: ((إِنَّمَا أَنَا بِشْر...)) إلى آخرِه [خ¦6967] صريحٌ في أنَّ حُكْمَه بما ليس بجائزٍ للمحكوم له لا يَحِلُّ له، وبالقياس على المالِ وغيرِه كما سَلَفَ، ثمَّ الحديثُ عامٌّ في قولِه: ((فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا)) سواءٌ كانت زوجةَ أخيهِ أو مالَه. قال الشَّافعِيُّ: ولو كان حُكْمُ الحاكمِ يُحِلُّ الأمورَ عمَّا هي عليه لكان حُكْمُ الشَّارعِ أَولى. وكذا قال سُحْنُون عند ابنِه.
          فَصْلٌ: قولُه في حديثِ خَنْساءَ: (فَلاَ تَخْشَيِنَّ) صوابُه بِكَسْرِ الياءِ وتشديدِ النُّونِ لأنَّه فعلٌ مبنيٌّ مع النُّونِ المشدَّدةِ، وإنْ جَعَلْتَه للمخاطَبةِ فيكونُ غيرَ مستقيمٍ في الإعرابِ إذْ لم تُحذَفِ النُّونُ منه في النَّهيِ.
          فَصْلٌ: قولُه: (فَأَدْرَكَتْ) أي بَلَغَتْ. وقولُه قَبْلَهُ: (وإن هَوِيَ) هو بِكَسْرِ الواو على وزنِ فَعِلَ وعَلِمَ وحَذِرَ.