التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب

          ░10▒ بَابٌ
          6967- ساق فيه حديثَ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ☻، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم: (إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُون إِلَيَّ) الحديث.
          احتجَّ البُخَارِيُّ في هذا البابِ على أبي حنيفةَ، وردَّ قولَه: إنَّ الجاريةَ للغاصِبِ إذا وجدَها ربُّها، واعتلَّ أبو حنيفةَ بأنَّه إذا أخذَ قيمتَها مِن الغاصبِ فلا حقَّ له فيها لأنَّه لا يُجمَعُ الشَّيءُ وبَدَلُهُ في شيءٍ واحدٍ أبدًا، والصَّحيح ما ذهب إليه البُخَارِيُّ، وهو قولُ مالكٍ والشَّافعِيِّ وأبي ثورٍ أنَّ صاحِبَها مخيَّرٌ بين أن يَرُدَّ القيمةَ ويأخُذَها، وبين أن يُمسِكَ القيمةَ ويتركُها، وهذا إذا أخفاها وزعم أنَّها ماتت، دون مالكٍ، فقال: إنْ وجدَها ربُّها عند مشتريها مِن الغاصبِ لم تتغيَّر فهو مخيَّرٌ بين أخْذِها أو قيمتِها يومَ الغَصْبِ أو الثَّمنِ الَّذي باعها به الغاصب، وإنْ وَجَدَها عند الغاصب لم تتغيَّر وهي أحسنُ ممَّا كانت يومَ غَصَبَها ولم يكن جَحَدها الغاصبُ ولا حُكِمَ عليه بقيمتِها فليس له إلَّا أَخْذُها ولا يأخذُ قيمتَها. هذا قولُه في «المدوَّنة» وهو مشهورُ مذهبِه.
          وذَكَرَ في «الزَّاهي» عن بعضِ أصحابِ مالكٍ أنَّه ليس له أن يُجِيز بيعَ الغاصبِ، وهذا مثل مذهب الشَّافعِيِّ، وإنْ وَجَدَها عند مشتريها وكانت مِن الوَخْشِ ولم تتغيَّر لم يكن له إلَّا أَخْذُها، وإن كانت رائعةً فأطلَقَ الجوازَ في «المدوَّنة» كما سَلَفَ. وقال مُطَرِّفٌ وابنُ الماجِشُون: هو مخيَّرٌ بين أَخْذِها أو قيمتِها إذا غاب عليها الغاصب.
          والحُجَّةُ لمن خالف أبا حنيفةَ بيانُ الشَّارع أنَّه: ((لا يَحِلُّ مالُ مُسْلمٍ إلَّا عن طِيب نفسٍ منه)) وأنَّ حُكْمَ الحاكم لا يُحِلُّ ما حرَّمَ اللهُ ورسولُه لِقوله ◙: (فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) وقولُ أبو حنيفةَ: إنَّ القيمةَ ثمنٌ، ليس كذلك لأنَّ القيمةَ إنَّما وَجَبتْ لأنَّ الجارية متلَفَةٌ لا يُقدَرُ عليها، فلمَّا ظهرتْ وَجَبَ له أخْذُها لأنَّ أخْذَ القيمة ليس ببيعٍ بايَعَه به وإنَّما أَخَذَها لهلاكِها، فلمَّا زال ذلك وَجَبَ الرُّجوعُ إلى الأصل الَّذي كان عليه وهو تسليمُ الجاريةِ إلى صاحبِها.
          وقد فرَّقَ أهلُ العلم بين القيمةِ والثَّمنِ فجَعَلُوا القيمةَ في الشَّيءِ المستهلَكِ وفي البيع الفاسدِ، وجَعَلُوا الثَّمَنَ في الشَّيءِ القائمِ، والفرقُ بين البيعِ الفاسدِ والغَصْبِ أنَّ البائعَ قد رَضِيَ بأخْذِ الثَّمَنِ عِوَضًا مِن سِلْعَتِهِ وأَذِنَ للمشتري في التَّصرُّفِ فيها، وإنَّما جَهِلَ السُّنَّةَ في البيع، فإصلاحُ هذا البيع أن يأخُذَ قيمةَ السِّلْعَةِ إن فاتت، والغاصِبُ غصَبَ ما لم يأذَن له فيه ربُّه وما له فيه رغبةٌ، فلا يحِلُّ تملُّكُه للغاصِبِ بوجهٍ مِن الوجوه إلَّا أن يَرضَى المغصوبُ منه بِأَخْذِ قيمتِه.
          وقد ناقضَ أبو حنيفةَ في هذه المسألة فقال: إن كان الغاصبُ حين ادَّعى ربُّ الجاريةِ قيمتَها كذا وكذا جحدَ ما قال، وقال: قيمتُها كذا وكذا وحلف عليه، ثمَّ قَدِرَ على الجاريةِ كان ربُّها بالخِيَار إنْ شاءَ سلَّمَها بالقيمة وإن شاء أخَذَها وردَّ القيمةَ؛ لأنَّه لم يُعْطَ القيمةَ الَّتي ادَّعاها ربُّها، وهذا ترْكٌ منه لِقولِه: ولو كانت القيمةُ ثمنًا ما كان لربِّ الجاريةِ الخِيَارُ فيما معناه البيعُ لأنَّ الرَّجُلَ لو باع ما يساوي خمسين دِينَارًا بعشَرَةِ دنانيرَ كان بيعُهُ لازمًا، ولم يُجْعَلْ له رجوعٌ ولا خِيَارٌ.
          فَرْعٌ: إذا ادَّعى الغاصِبُ هلاكَها فأُخِذَتِ القيمةُ ثمَّ ظهرتْ عنده، فإنْ عُلِمَ أنَّه أخفاها رَدَّها صاحبُها على ما سَلَفَ إن شاء، وإن لم يُعْلَمْ لم يكن للمغصوب منه شيءٌ إلَّا أن يكونَ أَقَرَّ بأقلَّ مِن الصِّفة فيَغْرَمُ تمامَ قيمةِ الصِّفةِ. قال أشهَبُ: ويحلِفُ أنَّه ما أخفاها وتبقى له إذا كانت على الصِّفَةِ الَّتي حَلَفَ عليها. وفي «المبسوط»: يَرجِعُ في الجارية ويَرُدُّ القيمةَ الَّتي أَخَذَ إذا أقرَّ بأقلَّ مِن الصِّفة.
          وقال بعضُ المتأخِّرين: سواءٌ وجدَها على الصِّفَةِ أو غيرِها تُرجَعُ إلى ربِّها ويُحمَلُ على أنَّه أخفاها، قيل: وانظُرْ لو قال: غَصَبْتُ جاريةً سوداءَ للخدمةِ قيمتُها عشرون، فَثَبَتَ أنَّها بيضاءُ قيمتُها مئةٌ، هل هذا بخلافِ جَحْدِه بَعضَ الصِّفَةِ؟
          فائدةٌ: قولُه: (أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ) أي أفطنَ، مأخوذٌ مِن اللَّحَنِ بالتَّحريك، يُقال: لَحِنَ بالكسْرِ، واللَّحْنُ بالسُّكونِ الخطأُ، يُقال منه: لَحَنَ _بالفتْحِ_ أي أخطأَ.