التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق

          ░3▒ بَابٌ فِي الزَّكَاةِ وَأَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ
          6955- ثمَّ ساقَهُ مِنْ حديثِ أَنَسٍ ☺، وقد سَلَفَ في الزَّكَاةِ [خ¦1450].
          6956- ثمَّ ساقَ حديثَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ إلى قولِه: (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) وقد سَلَفَ [خ¦46] [خ¦1891] [خ¦2678].
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ فَإْنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ وَهَبَهَا أَوِ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
          6957- 6958- ثمَّ ساقَ حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: (يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ) الحديث. وَقَالَ بَعْضُ النَّاس فِي رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ فَخَافَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَبَاعَهَا بِإِبِلٍ مِثْلِهَا أَوْ بِغَنَمٍ أَوْ بِبَقَرٍ أَوْ بِدَرَاهِمَ فِرَارًا مِنْ الصَّدَقَةِ بِيَوْمٍ احْتِيَالًا: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ زَكَّى إِبِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ بِيَوْمٍ أَوْ شِبْهِهِ أجزأَ عنه.
          6959- ثمَّ ساقَ حديثَ ابنِ عَبَّاسٍ ☻ أنَّهُ قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيُّ ☺ رَسُولَ اللهِ صلعم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّه فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (اقْضِهِ عَنْهَا).
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا بَلَغَتِ الإِبِلُ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الحَوْلِ أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا أوِ احْتِيَالًا لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا فَمَاتَ، فَلاَ شَيْءَ فِي مَالِهِ.
          الشَّرحُ: حاصلُ ما حكاه البُخَارِيُّ عن أَبِي حنيفَةَ، وهو المرادُ بِـ (بَعْضُ النَّاسِ) ثلاثةُ أقوالٍ في الفِرارِ مِن الزَّكاةِ، وذلك أنَّ أبا حنيفةَ قال: إنْ نَوَى بتفويتِه الفرارَ مِن الزَّكاة قبْلَ الحولِ بيومٍ لم تَضُرَّه النِّيَّة؛ لأنَّ ذلك لا يلْزَمُه إلَّا بتمامِ الحوْلِ، ولا يتوجَّهُ إليه معنى قولِه ◙: (خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) إلَّا حينئذٍ.
          وقد قام الإجماع على جواز التصرُّفِ قَبْلَ حُلولِ الحولِ بالبيعِ والهِبَةِ والذَّبْحِ إذا لم يَنْوِ الفِرارَ مِن الزَّكاةِ، وقام الإجماعُ أيضًا على أنَّه إذا حال الحَوْلُ وأطلَّ السَّاعِي أنَّه لا يحِلُّ التحيُّل للنُّقصانِ في أنْ يُفَرِّق بين مجتمِعٍ أو يُجْمَعَ بين مُتَفَرِّقٍ. وقال مالكٌ: إذا فوَّتَ مِن مالِه شيئًا ينوي به الفرارَ مِن الزَّكاةِ قَبْلَ الحولِ بِشَهرٍ أو نحوِه لَزْمَتْه الزَّكاةُ حين الحولِ آخِذًا بقولِه: (خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ).
          وقَصْدُ البُخَارِيِّ في البابِ أن يُعَرِّفَكَ أنَّ كلَّ حيلةٍ يتَحيَّلُ بها أحدٌ في إسقاطِ الزَّكاةِ فإنَّ إثمَ ذلك عليه؛ لأنَّه ◙ لَمَّا مَنَعَ مِن الجمْعِ والتَّفريقِ خشيةَ الصَّدَقَةِ فُهِمَ منه هذا المعنى، وفُهِمَ مِن قولِه: (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) أنَّه مَن رام أن يَنْقُصَ شيئًا مِن فرائضِ الله بِحِيلةٍ يحتالُها أنَّه لا يُفلِحُ ولا يقومُ له بذلك عُذْرٌ عند الله.
          فما أجازَ الفقهاءُ مِن تصرُّفِ صاحبِ المال قُرْبَ حلولِ الحولِ فَلَمْ يُريدُوا به الفرارَ مِن الزَّكاةِ، ومَن نَوَى ذلك فالإثمُ عنه غيرُ ساقطٍ / واللهُ حسيبُهُ وهو كمن فرَّ مِن صِيامِ رمضانَ بِسَفَرٍ رغبةً عن الفرْضِ، فالوعيدُ إليه متوجِّهٌ، أَلَا ترى عقوبةَ مَن مَنَعَ الزَّكاةَ يومَ القيامةِ في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ في البابِ وغيرِه مِن الأحاديث السَّالفةِ في الزَّكاةِ فهذا يدلُّ على أنَّ الفرارَ منها لا يحِلُّ، وهو مطالَبٌ بذلك في الآخرةِ، وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ ☻ في النَّذْرِ حُجَّةٌ أيضًا في ذلك لأنَّه إذا أَمَرَهُ بقضاءِ النَّذْرِ عن أُمِّه حين فاتَها القضاءُ، دلَّ ذلك على أنَّ الفرائضَ المهروبَ عنها أوكدُ مِن النَّذْرِ.
          وأمَّا إذا بِيعَتِ الغنمُ بِغَنَمٍ فإنَّ مالكًا وأكثرَ العلماء يقولون: إنَّ الثَّانيةَ على حَوْلِ الأُولى؛ لأنَّ الجنسَ واحدٌ والنِّصابَ واحدٌ والمأخوذَ واحدٌ. قال الشَّافعِيُّ في أحدِ قوليهِ: يستأنفُ بالثَّانيةِ حولًا، وليس بشيءٍ. وأمَّا إنْ باعَ غنمًا بِبَقَرٍ أو بِإبلٍ فأكثرُ العلماء على الاستئنافِ بما يأخذُ حولًا كأنَّه باعَ دنانيرَ بدراهمَ؛ لأنَّ النِّصابَ في الإبِلِ والبقَرِ مُخَالِفٌ للغنمِ وكذلك المأخوذُ.
          وقال في كتابِ ابنِ سُحْنُون فيمن باع غنمًا: يستأنِفُ في الثَّانية جزمًا، وفي «كتاب مُحَمَّدٍ»: مَن باع غنمًا بإبلٍ أو بقرٍ، كأنَّهما على حولِ الأُولى نِصابًا، وإن كانت دونَه استأنفَ جزمًا، وقال ابنُ سَلَمَةَ: يبنِي على حولِ الأُولى أقلَّ مِن نِصَابٍ. ومِن النَّاس مَن يقولُ: إذا مَلَكَ الماشيةَ ستَّةَ أشهُرٍ ثمَّ باعها بدراهَمَ زَكَّى الدَّارهم لِتمامِ ستَّةِ أشهُرٍ مِن يومِ باعها. هذا قولُ أحمدَ وأهلِ الظَّاهر.
          وما ألزَمَهُ مِن التَّناقُضِ في قولِه بإجازة تقديمِ الزَّكاةِ قبْلَ الحولِ بِسَنَةٍ فليس بمتناقضٍ؛ لأنَّه لا يوجِبُ الزَّكاةَ إلَّا بتمامِ الحولِ ويجعلُ مَن قدَّمَها كمَن قدَّم دَيْنًا مؤجَّلًا قَبْلَ أن يَجِبَ عليه، وإن تمَّ الحولُ وليس بِيَدِه نِصَابٌ مِن تلك الماشية رَجَعَ على الإمامِ، يؤدِّيها إليه مِن الصَّدَقَةِ كما أدَّى الشَّارعُ الجملَ الرَّبَاعيَّ الخِيَارَ إلى مَنْ هذِه حالُه.
          ومذهبُنا أنَّ الحيلةَ في الفرارِ مِن الزَّكاةِ مكروهةٌ كراهةَ تنزيهٍ. وأمَّا الغَزَاليُّ فقال في «بسيطِهِ»: إنَّها تحريمٌ. واختلف المالكيَّةُ متى يُحْمَلُ مَن جَمَعَ أو فرَّقَ على التُّهمَةِ، فقال ابنُ القاسم: إذا فَعَلَا ذلك قبْلَ الحولِ بِشهرينِ أو أقلَّ فهم خُلَطاءُ، وقال ابن حَبِيبٍ: أدنى ذلك الشَّهرُ وما قارَبَهُ لا يجوز لهما فيه فُرقةٌ ولا اجتماعٌ. وقال مُحَمَّدٌ: إنِ اجتمعَا أو افترقَا قَبْلَ الشَّهرِ فجائِزٌ ما لم يَقْرُبْ جِدًّا. وقال القاضي عبدُ الوهَّاب: إذا لم يقصِد الفِرارَ زكَّاها السَّاعي على ما وجدَها عليه، ويَقبَلُ قولَ ربِّها إلَّا أن تظهرَ أَمارةٌ تُقوِّي التُّهمةَ.
          تنبيهٌ: وقع في ابنِ التِّين أنَّ البُخَارِيَّ إنَّما أَتَى بقولِه: مانعُ الزَّكاة، لِيَدُلَّ أنَّ الفِرارَ مِن الزَّكاة لا يَحِلُّ فهو مطالَبٌ بذلك في الآخرةِ، وهذا لم نَرْوِهِ في البُخَارِيِّ فاعلمه.
          فَرْعٌ: بَاعَ غنمًا بعينٍ بعدَ أنْ زكَّى الغنمَ، ففي «المدوَّنة»: يزكِّي ثَمَنَها مِن يومِ زَكَّى الغنم، وقال مُحَمَّدُ بنِ عبدِ الحَكَمِ: يستأنفُ بالغنَمِ حولًا. قال ابن مَسْلَمَةَ: يُزكِّي الغنمَ على حوْلِ العينِ بالعينِ مِن جنسِهِ أو مِن غيرِ جنسِهِ.