التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط

          ░15▒ (بَابُ: الشُّرُوطِ فِي الجِهَادِ وَالمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ، والشُّروطِ معَ النَّاسِ بالقولِ)
          2731- 2732- 2733- ذكر فيه حديثَ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ، وساقا حديثَ الحُديبيةِ، وهو أتمُّ ما جاء في سياقته، وقد شرحناه في باب: كيف يكتب الصُّلح [خ¦2698] [خ¦2699] تعجيلًا، ونذكرُ هنا ما أهملناه هناك.
          وتكلَّمنا هناك على قوله: (مَا خَلَأَت القَصْوَاءُ) والقصواء _ممدودةٌ_ ناقته ◙، قَالَ الخَطَّابِيُّ: وكانت مقصوة الأذن وهو قطعُ طرفِها، وقال الدَّاوُديُّ: سمِّيت بذلك لأنَّها كانت لا تكاد أن تسبق، وكأنَّهم يقولون: لها أفضلُ السَّبق والجري لأنَّ آخر كلِّ شيءٍ أقصاه، ويقال لها: العَضْباء لأنَّ طرف أذنها كان مقطوعًا، وقال ابن فارسٍ: العَضْباء لقب ناقته، وهو لغةً: المشقوقةُ الأذن، والَّذي قاله أهل اللُّغة _كما ذكره ابن التِّين_ أنَّ القصواء مأخوذةٌ مِنَ القصا وهو صدفٌ في أذن النَّاقة، وجاء بلفظ فاعلٍ ومعناه مقصوَّةٌ، قال الأصمعيُّ: ولا يقال: بعيرٌ أقصى، قال: وضبط <القُصْوَى> بضمِّ القاف والقصر في بعض النُّسخ، وفي بعضها بالفتح والمدِّ، وهو الصَّحيح في اللُّغة، قال في «أدب الكاتب»: القُصْوى _بالضمِّ والقصر_ شذَّ مِنْ بين نظائره، وحقُّه أن يكون بالياء، مثل: الدُّنيا والعليا لأنَّ الدُّنيا مِنْ دَنَوْتُ، والعُليا مِنْ عَلَوْتُ.
          قوله: (مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ) قال الدَّاوُديُّ: تِهامة مكَّة وما حولها مِنَ البلد، وحدُّها مِنْ جهة المدينة العَرْج، ومنتهاها إلى أقصى اليمن، وقال ابن فارسٍ: التَّهَم: شدَّة الحرِّ وركود الرِّيح، قال: وبذلك سمِّيت تِهامة، يقال: أَتْهَمَ: أتى تِهامة.
          وقوله: (فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ عَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ، وكَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ) هما قبيلان مِنْ قريشٍ.
          قوله: (وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ) أي ليسوا ممَّن يستحلُّها، ومنه قوله _تعالى_: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ} [المائدة:2] فكانوا يعلون شأنَها، ولا يصدُّون مَنْ أمَّ البيتَ الحرام، فأمر رسول الله _صلعم_ بإقامتها له مِنْ أجل علمه بتعظيمه لها ليخبر بذلك قومَه فيخلُّوا بينه وبين البيت.
          و(البُدْنَ) مِنَ الإبل أو البقر، وقيل لها بدنٌ لسمنها وهي الهدايا.
          وقوله: (رَأَيْتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ) فيه دلالةٌ على جواز ذلك، وخالف فيه أبو حنيفة كما سلف حيث قال: لا يجوز الإشعار، وصفتُه أن يكون عرضًا مِنَ العنق إلى الذَّنَب، وفي «كتاب ابن حَبيبٍ»: طولًا، ويكون ذلك في الشِّقِّ الأيسر هذا مشهور قول مالكٍ، وخالف في «المبسوط» فقال: في الأيمن.
          وقوله في مِكْرَزٍ: (هُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ) يحتمل أن يكون أخبر بالوحي أو أن يكون ذلك ظاهر حاله، وأراد مساوئ أفعاله غير الشِّرك.
          وأنكر سُهَيْلٌ البسملة لأنَّهم كانوا في الجاهليَّة يكتبون: باسمك اللهمَّ، وكان النَّبيُّ _صلعم_ في بدء الإسلام يكتب كذلك، فلمَّا نزلت: {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41] كتبَ: باسم الله، فلمَّا نزل: {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] كتبَ: الرَّحمن، فلما نزل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] كتب كذلك فأدركتهم حميَّة الجاهليَّة.
          والميم في قوله: (اللهُمَّ) بدلٌ مِنْ يا في قول البصريِّين، وقال الكوفيُّون: المعنى يا الله أُمَّنا بخيرٍ؛ فهي مضمَّنةٌ ما يسأل فيها، وفي إجابة النَّبيِّ _صلعم_ لهم في ذلك بعضُ المسامحة، وفيه إجابة النَّبيِّ _صلعم_ لهم في أمور الدِّين ما لم يكن مضرًّا بأصله.
          وقوله: (أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً) أي مفاجأةً قاله الدَّاوُديُّ، وقال الجوهريُّ: يقال: ضَغَطه يَضغَطه ضَغْطًا زحمه إلى حائطٍ ونحوه ومنه ضَغْطة القبر، والضُّغْطة _بالضَّمِّ_ الشِّدَّة والمشقَّة، يقال: ارفع عنا هذه الضُّغطة، وأخذت فلانًا ضُغطةً إذا ضيَّقتَ عليه لتكرهه على الشَّيء.
          و(سُهَيلٌ) أسلم بعدُ وحسنَ إسلامُه، خرج في خلافة عمر إلى الجهاد فمات هناك وكان مِنَ المؤلَّفة قلوبُهم.
          وقوله: (يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ) سلف في باب الصُّلح مع المشركين [خ¦2700] وأنَّه مشيُ المقيَّد، أي يَثِبُ وثبًا خفيفًا قدر استطاعته.
          وقوله: (أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ) أي أعاقدك.
          وقوله: (فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا) قد أسلفتُ عن ابن الجوزيِّ أنَّه إشارةٌ إلى الاستغفار والاعتذار.
          وقوله: (أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ، قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الخُزَاعِيِّ، فَتَزَوَّجَ قَرِيبَةَ مُعَاوِيَةُ وَتَزَوَّجَ الأُخْرَى أَبُو جَهْمٍ) وقال قبله: إنَّه تزوج / إحداهما صفوان بن أميَّة، وذَكر بَكرٌ في كتاب «الأحكام» قولين كما تقدَّم وهي: بنت جَرْولٍ، قيل بالحاء وقيل بالجيم.
          و(قَرِيبَةَ) _بفتح القاف_ كذا بخطِّ الدِّمْياطيِّ، وقال ابن التِّين: ضبطها بعضهم بالضَّمِّ وبعضهم بالفتح.
          وقوله: (فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ) أي مات، ويقال للسُّيوف: البوارد، أي القواتل، وقال الدَّاوُديُّ: إذا مات برد جسمه فلم يبقَ فيه مِنْ حرِّ الضَّرب شيءٌ.
          وقوله: (رَأَى هَذَا ذُعْرًا) أي فزعًا، يقال: ذُعِرَ فهو مذعورٌ.
          وقوله: (مَعَهُ عِصَابَةٌ) أي جماعةٌ.
          وقوله: (فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ تُنَاشِدُهُ اللهَ وَالرَّحِمَ) أي يسألونَه بالله، قال الدَّاوُديُّ أي يذكِّرونه بالله.
          وقوله: (فَأَنْزَلَ اللهُ _تَعَالَى_: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}) لمَّا أرسل رسول الله _صلعم_ سؤال قريشٍ مَنْ أتاه فهو آمنٌ، وقال الدَّاوُديُّ: أُلقي في قلوبهم ولكنَّه _◙_ ترك القتال، وقال قتادة: كفَّ أيديَ المشركين حين خرجوا إلى الحُدَيْبية وكفَّ أيديَهم عنكم، قال: فطَلع رجلٌ مِنْ أصحاب رسول الله _صلعم_ يقال له: زَنِيمٌ، فرماه المشركون فقتلوه، فبَعث النَّبيُّ _صلعم_ فأخذوا اثني عشر فارسًا، فأتَوا بهم رسولَ الله _صلعم_ فقال: ((لَكُمْ عَهْدٌ أَوْ ذِمَّةٌ؟)) قالوا: لا، فأطلقَهم فنزلت هذه الآية.
          وقوله: ({وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا}) [الفتح:25] أي محبوسًا.
          وقوله: ({أَنْ تَطَئُوهُمْ}) [الفتح:25] أي تقتلوهم.
          وقوله: ({مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}) أي عيبٌ.
          وقوله: (نزلتْ: {وَإِنْ فَاتَكُم شَيءٌ...}) الآية [الممتحنة:11]، (والعَقْبُ مَا يُؤَدِّي المُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَت امْرَأَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ) وقيل: أن تغزي في هذه الغزاة غزاةً أخرى فيعطوا المؤمنين مِنَ الفيء ما فاتهم مِنْ أزواجهم مِنَ المهور، وقال الزُّهريُّ: هذا في المسلم تَخرج زوجته إلى بلد الشِّرك ولا يجيء منهم أحدٌ، فعلى المسلمين إذا غنموا أن يُعْطوه صداقها، وقال مسروقٌ: معنى {فَعَاقَبْتُمْ} أي غنمتم، وقال الأعمش: هي منسوخةٌ، وقيل: هذا كلُّه ممَّا تُرك العمل به، وهو معنى {أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة:106].
          وفيه الحكم على الغائب، قاله الدَّاوُديُّ، والمعاقَبة بمثل ما يؤتى إلى المرء في الأمانة في المال وغيره.
          وقوله: (بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أسيدٍ) هو بالباء الموحَّدة المفتوحة، وكذا الهمزة المفتوحة في أَسيدٍ، وقال ابن التِّين: ضبطه بعضهم بضمِّ الهمزة وبعضهم بفتحها وكسر السِّين، قيل: وهو الصَّحيح؛ لأنَّ أبا بصيرٍ مهاجرٌ وكلُّ مهاجري أَسيد بفتحها وفي الأنْصار ضمُّها، واستثنى هذا بعضُهم وقال: هذا موافق الأنصار أنَّه بالضَّمِّ.
          وفي الحديث مِنَ الفقه جواز صلحِ المشركين ومُهَادنتهم دون مالٍ يؤخذ منهم إذا رأى لذلك الإمام وجهًا، وفيه كتابة الشُّروط الَّتي تنعقد بين المسلمين والمشركين والإشهاد عليها ليكون ذلك شاهدًا على مَنْ رام نقض ذلك والرُّجوع فيه، وفيه الاستتار عن طلائعِ المشركين ومفاجأتهم بالجيشِ وطلبُ غرَّتهم إذا بلغتهم الدَّعوة، وفيه جواز التَّنكيب عن الطَّريق بالجيوش وإن كان في ذلك مشقَّةٌ، وفيه برَكة التَّيامن في الأمور كلِّها، وفيه أنَّ ما عرض للسُّلطان وقوَّاد الجيوش وجميع النَّاس ممَّا هو خارجٌ عن العادة يجب عليهم أن يتأمَّلوه وينظروا الشُّبهة في قضاء الله في الأمم الخالية، ويمسكوا صواب الخير فيه، ويعلموا أنَّ ذلك مَثلٌ ضُرب لهم ونُبِّهوا عليه كما امتثله الشَّارع في أمر ناقته وبروكها في قصَّة الفيل لأنَّها كانت إذا وُجِّهت إلى مكَّة برَكت، وإذا صُرِفت عنها مَشَتْ كما دأب الفيل، وهذا خارجٌ عن العادة فعَلم أنَّ الله صرفها عن مكَّة كالفيل، ولذلك قال: ((لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا)) يريد بذلك موافقة الرَّبِّ _جلَّ جلاله_ في تعظيم الحرمات لأنَّه فهم عن الله إبلاغ الأعذار إلى أهل مكَّة فأبقى عليهم لما كان سَبَق لهم في عِلمه أنَّهم سيدخلون في دينه أفواجًا وقد سبق.
          وفيه علامات النُّبوَّة وبركته _عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام_ وبركة السِّلاح المحمولة في سبيل الله، ونبع الماء مِنَ السَّهم، وإنَّما قَدِم _◙ _ مكَّة غير مستأمِنٍ ممَّا كان بينه وبين أهل مكَّة مِنَ الحرب والمناصبة والعداوة، ولا أخذ إذنهم في ذلك لأنَّه جرى على العادة مِنْ أنَّ مكة غير ممنوعةٍ مِنَ الحجَّاج والمعتمرين، فلمَّا علم الله _تعالى_ أنَّهم صادُّوه ومقاتلوه حبس الناقة عن مكَّة كما حبس الفيل تنبيهًا له على الإبقاء عليهم.
          وقوله: (إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ) على وجه بذل النَّصيحة للقرابة الَّتي كانت بينهم، فقال لهم: ((إنْ شِئْتُمْ مَادَدْتُكُم)) أي صالحتكم مدَّةً تستجمُّون فيها إن أردتم القتال وتدَعوني مع النَّاس يعني طوائف العرب، فإن ظهرتُ عليهم دخلتُم فيما دخلوا فيه، وإنَّما نصحهم رسول الله _صلعم_ لما فهم عن الله في حبس النَّاقة أنَّهم سيدخلون في الإسلام، فأراد أن يجعل بينهم مدَّةً يقلب الله _تعالى _ فيها قلوبهم، وفي لين قول بُديل وعروة لقريشٍ دليلٌ على أنَّهم كانوا أهل إصغاءٍ إلى رسول الله _صلعم_ وميلٍ إليه كما قال في الحديث.
          وقول عروةَ له: (أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ قَومَكَ) دليلٌ على أنَّه _◙_ كان يومئذٍ في جمعٍ يخاف منه عروة على أهل مكَّة الاستئصال لو قاتلهم، وقد سلف ذلك.
          خاتمةٌ: في مواضعَ مفرَّقةٍ مِنَ الحديث أيضًا: تدلُّكهم بالنُّخامة منه على وجه التَّبرُّك ورجاء نفعِها في أعضائهم، وفيه طهارة النُّخامة بخلاف مَنْ نجَّسها ونجَّس الماء بها، وإنَّما أكثروا مِنْ ذلك بحضرة عروة، وتزاحموا عليه لأجل قوله: (إنِّي لَأَرَى وُجُوهًا وأَشْوَابًا مِنَ النَّاسِ...) إلى آخره، فأرَوه أنَّهم أشدُّ اغتباطًا وتبرُّكًا بأمره وتثبُّتًا في نصرته مِنَ القبائل الَّتي تراعي الرَّحم منهم.
          وفيه التَّفاؤل مِنَ الاسم وغيره كما سلف، وقول سُهَيْلٍ: ما نعرف الرَّحمن، قد أخبر الرَّبُّ _جلَّ جلاله_ عن العرب / بذلك حيث قال: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60].
          وفي يمين المسلمين: وَاللهِ لا نكتبُ إلَّا البَسملةَ أنَّ أصحاب السُّلطان يجب عليهم مراعاة أمره وعونه وعزَّة الله _تعالى_ الَّتي بها عزَّةُ السُّلطان، وتركُه إبرارَ قَسَمِهم مع أنَّه أمرنا بإبراره، إنَّما هو مندوبٌ إليه فيما يحسُن ويجمُل، وأمَّا مَنْ حلف عليه في أمرٍ لا يحسُن ولا يجمُل في دينٍ ولا مروءةٍ فلا يجيب إليه، كما لم يجب إلى ما حلف عليه أصحابه لأنَّه كان يَؤولُ إلى انخرام المقاضاة بالصُّلح، مع أنَّ ما دعا إليه سُهيلٌ لم يكن إلحادًا في أسمائه _تعالى_ وكذلك ما أباه سُهَيلٌ مِنْ كتابة محمَّد رسول الله ليس فيه إلحادٌ في الرِّسالة فلذلك أجابه _◙_ إلى ما دعا إليه مع أنَّه لم يأنف سُهَيلٌ مِنْ هذا إلَّا أنَّه كان مساق العقد عن أهل مكَّة، وقد جاء في بعض الطُّرق: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللهِ) فخشي أن ينعقدَ في مقالهم الإقرارُ برسالته، وقد سلف أيضًا.
          وقوله: (وَعَلَى أَنْ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ) يدلُّ أنَّ المقاضاة إنَّما انعقدت على الرِّجال دون النِّساء، فليس فيه نسخُ حكمِ النِّساء على هذه الرِّواية لأنَّ النِّساء لم يَرُدَّهنَّ كما ردَّ الرِّجال، مِنْ أجل أنَّ الشَّرط إنَّما وقع بردِّ الرِّجال خاصَّةً، ثُمَّ نزلت الآية في أمر النِّساء حين هاجرن إلى رسول الله _صلعم_ مبيِّنةً لما تقدَّم مِنْ حُكمِ ذلك، وقد سلف ذلك أيضًا.
          وقوله لسُهَيلٍ: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ) أراد أن يخلِّص أبا جَندلٍ، وقد كان تمَّ الصُّلح بالكلام والعقد قبل أنْ يُكْتب، وفيه أنَّ مَنْ صالح أو عاقد على شيءٍ بالكلام ولم يوفَ له به أنَّه بالخيار في النَّقض، وأمَّا قول عمرَ وما قرَّر عليه رسول الله _صلعم_ مِنْ أنَّهم على الحقِّ: (ولِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا) أي نردُّ مَنِ استجار بنا مِنَ المسلمين إلى المشركين، فقال له: (إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ) تنبيهًا لعمرَ كما سلف.
          وفيه جوازُ المعارضة في العلم حتَّى تتبين المعاني، وفيه أنَّ الكلام محمولٌ على العموم حتَّى يقومَ عليه دليل الخصوص، ألا ترى أنَّ عمرَ حمل كلامه على الخصوص لأنَّه طالبه بدخول البيت في ذلك العام فأخبره أنَّه لم يَعِده بذلك في ذلك العام، بل وعده وعدًا مطلقًا في الدَّهر حتَّى وقع فدلَّ أنَّ الكلام محمولٌ على العموم حتَّى يأتيَ دليل الخصوص.
          وفي قوله: (فَإِنَّكَ آتِيهِ) دليلٌ أنَّه مَنْ حلف على فعلٍ ولم يوقِّت وقتًا أنَّ وقته أيَّامُ حياته، قال ابن المُنْذِر: فإنْ حلف بالطَّلاق ليفعلنَّ كذا إلى وقتٍ غير معلومٍ فقالت طائفة: لا يَطؤُها حتَّى يفعل الَّذي حلف عليه، فأيُّهما مات لم يرثه صاحبُه، هذا قول سعيد بن المسيِّب والحسن والشَّعبيِّ والنَّخَعيِّ وأبي عُبيدٍ، وقالت طائفةٌ: إن مات ورثتْه وله وطؤها رُوي هذا عن عطاءٍ، وقال يحيى بن سعيد: ترثُه إنْ مات، وقال مالك: إن ماتت امرأتُه يرثها، وقال الثَّوريُّ: إنَّما يقع الحِنْث بعد الموت وبه قال أبو ثَورٍ، وقال أبو ثَورٍ أيضًا: إذا حلف ولم يوقِّت فهو على يمينه حتَّى يموت، ولا يقع حِنثٌ بعد الموت، فإذا مات لم يكن عليه شيءٌ، قال ابن المنذِر: وهذا النَّظرُ.
          وقالت طائفةٌ: يُضرب لها أجل المولى أربعة أشهرٍ، روي هذا عن القاسم وسالمٍ، وهو قول ربيعة ومالكٍ والأوزاعيِّ، وقال أبو حنيفة: إنْ قال: أنت طالقٌ إن لم آتِ البصرة، فماتت امرأته قبل أن يأتيَ البصرة فله الميراث، ولا يضرُّه ألَّا يأتيَ البصرة بعدُ لأنَّ امرأته ماتت قبل أن يحنث، ولو مات قبلها حَنِثَ وكان لها الميراث لأنَّه فارٌّ ولأنَّ الطَّلاق إنَّما وقع عليها قبل الموت بقليلٍ فلها الميراث.
          ولو قال لها: أنت طالقٌ إن لم تأتِ البصرةَ أنتِ، فماتت فليس له منها ميراثٌ، وإن مات قبلها فلها الميراثُ، ولا يضرُّها ألَّا تأتيَ البصرة، وفيه قولٌ سادسٌ حكاه أبو عُبَيدٍ عن بعض أهل النَّظر قال: إن أخذ الحالف في التَّأهُّب لما حلف عليه والسَّعي فيه حين تكلَّم باليمين حتَّى يكون متَّصلًا بالبرِّ، وإلَّا فهو حانثٌ عند ترك ذلك.
          قال ابن المنذر: في هذا الحديث دليلٌ أنَّ مَنْ لم يَحُدَّ ليمينه أجلًا أنَّه على يمينه، ولا يحنث إن وقف عن الفعل الَّذي حَلَفَ يفعلُه، وتوقُّفُ أصحاب النَّبيِّ _صلعم_ عن النَّحْرِ والحلق لمخالفتهم العادة الَّتي كانوا عليها ألَّا ينحر أحدٌ حتَّى يبلغ الهديُ محلَّه، ولا يحلق إلَّا بعد الطَّواف والسَّعي حتَّى شاور الشَّارع أمَّ سَلَمَة، فأراه اللهُ بركة المشورة ففعل ما قالت فاقتدى به أصحابه، فكذلك لو فعل في حجَّة الوداع ما أمر به أصحابه مِنَ الحِلاق والحلِّ ما اختلف عليه اثنان.
          ففي هذا مِنَ الفقه أنَّ الفعل أقوى مِنَ القول، وفيه جوازُ مشاورة النِّساء ذوات الفضل والرَّأي، وأمَّا إسلامه _◙_ لأبي بَصيرٍ وصاحبه إلى رُسل مكَّة فهو على ما انعقد في الرِّجال، وأمَّا قتلُ أبي بصيرٍ لأَحَد الرُّسل بعد أن أشار إليهم النَّبيُّ _صلعم_ فليس عليه حراسة المشركين ممَّن يدفعه إليهم، ولا عليه القَوَد ممَّن قَتل في الله وجاهد لأنَّ هذا لم يكن مِنْ شرطه، ولا طالب أولياءُ القتيلِ رسول الله _صلعم_ بالقود مِنْ أبي بَصيرٍ على ما سلف.
          وقول / أبي بَصيرٍ لرسول الله _صلعم_: (قد أَوْفَى اللهُ ذِمَّتَكَ) يعني أنَّك رددتني إليهم كما شرطت لهم، فلا تردَّني الثَّانية فلم يَرْضَ رسول الله _صلعم_ إلَّا بما لا شكَّ فيه مِنَ الوفاء، فسكت عنه ونَبَّهَهُ على ما ينجو به مِنْ كفَّار قريشٍ بتعريضٍ عرَّض له به، وذلك قوله: (لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ) يعني مَنْ ينصرُه ويمنعُه، فعلمها أبو بَصيرٍ وخرج سِيفَ البحر، وجعل يطلب غِرَّةَ أهلِ مكَّة وأذاهم، حتَّى لحق به أبو جَندلٍ وجماعةٌ، فرضي المشركون بحلِّ هذا الشَّرط، وأن يكفيَهم الشَّارع نكايته ويكفَّ عنهم عاديته.
          وقوله: مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى المُشرِكِينَ عِوَضًا ممَّا أَنفَقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمُ المُهَاجِرَاتِ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ، فهو منسوخٌ عن الشَّعبيِّ وعطاءٍ ومجاهدٍ وقد سلف.