التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك

          ░14▒ (بَابُ: إِذَا اشْتَرَطَ فِي المُزَارَعَةِ إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُكَ)
          2730- ذكر فيه حديثَ مالكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: (لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ) ثُمَّ ساقه بطوله، ثُمَّ قال: (رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ أَحْسِبُهُ عَنْ نَافِعٍ عَن ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ عَنِ رسولِ اللهِ _صلعم_ اخْتَصَرَهُ).
          هذا الحديث تقدَّم في كتاب المزارَعة معناه في باب: إذا قال ربُّ الأرض: أُقرُّك ما أَقرَّك الله [خ¦2338]، وهنا أتمُّ، وما للعلماء فيه، وهذا الحديث يدلُّ أنَّ عُمَرَ إنَّما أخرجهم لعدوانهم على المسلمين ونصبهم الغوائل لهم اقتداءً به _◙_ في إجلائه بني النَّضير، وأمره لهم ببيع أرضهم حين أرادوا الغدر برسول الله _صلعم_ وأن يُلْقوا عليه حجرًا مع أنَّه بلغه أنَّ النَّبيَّ _صلعم_ قال عند موته: ((لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ)) ذكرها مالكٌ في «موطَّآته» بأسانيدَ منقطعةٍ.
          وفي مسلمٍ من حديث عمرَ: ((لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا)) فرأى عمرُ إنفاذ وصيَّة رسول الله _صلعم_ عندما بدا منهم مِنْ فَدْعِهم لابنه وخشي منهم أكثر مِنْ هذا، وقَالَ الخَطَّابيُّ: اتَّهم عمرُ أهلَ خيبرَ بأنَّهم سحروا عبد الله، وقال الصَّغَانيُّ: رمَوه مِنْ فوق بيتٍ ففُدِعَت قدمُه. وقال صاحب «المطالع»: في بعض تعاليق البخاريِّ: فُدِعَ يعني كُسِرَ، والمعروف ما قاله أهل اللُّغة، وسيأتي أنَّ ذلك وقع ليلًا ولا يُدرى فاعلُه.
          ولأبي داود: كانَ رسولُ الله _صلعم_ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّا نُخْرِجُهُمْ إِذَا شِئْنَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَلْحَقْ بِهِ، فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ، وفي «الموطَّأ» قال مالكٌ: وقد أجلى عمرُ يهودَ خَيْبرَ وفَدَكٍ، ثُمَّ ساق الثَّانيَ، وفي كُتُب السِّيَر: لمَّا أثقَل بأهل فَدَكٍ ما فعل رسول الله _صلعم_ بأهل خيبرَ بعثوا إليه ليؤمِّنهم ويتركوا الأموال فأجابهم إلى ذلك، وكانت ممَّا لم يوجف عليه الخيل ولا الرِّكاب فلم تقسم لذلك، فوضعها رسول الله حيث أمره ربُّه.
          وحديثُ حمَّادٍ ذكره الحُميديُّ بلفظ: قال حمَّاد: أَحْسَبُه عن نافعٍ عن ابن عمرَ قال: أتى رسولُ الله _صلعم_ أهلَ خيبرَ فقاتلهم حتَّى ألجأهم إلى قصورهم وغلبهم على الأرض... الحديث، وفيه: فلمَّا كان زمن عمرَ غَشُوا المسلمين وألقَوُا ابنَ عمرَ مِنْ فوقِ بيتٍ ففَدَعُوا يديه... الحديث. وكذا ذكره الْمِزِّيُّ، والَّذي في البخاريِّ ما سقناه، وكذا هو في «المستخرَجين».
          واعلم أنَّ البخاريَّ روى هذا الحديثَ عن أبي أحمد، واختُلف فيه على ثلاثةِ أقوالٍ:
          أحدها: الْمَرَّارُ بْنُ حَمُّوْيَهِ بن منصورٍ الهَمْدَانيُّ النَّهَاوَنْديُّ قتل سنة أربعٍ وخمسين ومئتين عن أربعٍ وخمسين سنةً، كذا ذكره البَيهَقيُّ في «دلائله» وأبو مسعودٍ وأبو نُعَيمٍ الأَصْبَهانيُّ وابن السَّكَن وأبو ذرٍّ الهَرَويُّ.
          ثانيها: محمَّدُ بن يوسُف البِيْكَنْديُّ وقد أكثر البخاريُّ الرِّواية عنه وهو مِنْ أفراده، ولا يحضرني وفاتُه.
          قال الحاكم: أهل بخارى يزعُمون أنَّ أبا أحمد هذا هو محمَّدُ بن يوسف البِيكَنديُّ، قال أبو عبد الله: وقد حدَّثونا بهذا الحديث عن موسى بن هارون حدَّثنا أبو أحمد مَرَّارُ بْنُ حَمُّوْيَه حدَّثنا أبو غسَّان.
          ثالثها: محمَّدُ بن عبد الوهَّاب ابن عمِّ عبد الرَّحمن بن بِشْر بن الحَكَم بن حَبيب بن مِهرانَ، مات سنة اثنتين وسبعين ومئتين.
          قال الحاكم: قرأت هذا الحديث أيضًا بخطِّ شيخنا أبي عمرٍو الْمُسْتَمْلِي عن أبي أحمد محمَّدِ بن عبد الوهَّاب بن حَبيبٍ العبديِّ الفرَّاء النَّيْسابُوريِّ عن أبي غسَّان، وذكره ابنُ حَزمٍ مِنْ رواية محمَّدِ بن يحيى الكِنانيِّ أبي غسَّان.
          وزعم الهَرويُّ وعبد الغافر في «مجمعه» أنَّ ابن عمر أرسله عمرُ إلى أهل خيبرَ ليقاسمَهم الثَّمرَ ففَدِع. /
          إذا تقرَّر ذلك فالكلامُ عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: الفَدَعُ بفاءٍ ثُمَّ دالٍ مهملةٍ ثُمَّ عينٍ مهملةٍ أيضًا، ذُكر بعدُ أنَّه فُدعت يداه ورجلاه، قال الأزهَريُّ في «تهذيبه» عن اللَّيث: ميلٌ في المفاصل كلِّها كأنَّ المفاصل قد زالت عن مواضعها، وأكثر ما يكون في الأرساغ، قال: وكلُّ ظَلِيمٍ أَفدعُ لأنَّ في أصابعه اعوجاجًا.
          وقال النَّضْر بنُ شُمَيْلٍ: إنَّه في اليد أن تراه _يعني البعيرَ_ يطأ على أمِّ قِرْدانه فأَشْخَص شخص خفِّه، ولا يكون إلَّا في الرُّسغ، وقال غيره: الفَدَعُ أن يصطكَّ كعباه وتتباعد قدماه يمينًا وشمالًا، وقال ابن الأعرابيِّ: الأَفْدَعُ: الَّذي يمشي على ظهر قَدَميه، وعن الأصمعيِّ: هو الَّذي ارتفعَ أخمصُ رجله ارتفاعًا لو وطِئ صاحبُها على عصفورٍ ما آذاه، وقال ثابتٌ في «خلق الإنسان»: إذا زاغت القَدمُ مِنْ أصلها مِنَ الكعب وطرفِ السَّاق فذاك الفَدَعُ، رجلٌ أَفْدعُ وامرأةٌ فَدْعاءُ، وقد فَدِعَ فَدَعًا، وقال في «المخصَّص»: هو عِوَجٌ في المفاصل أو داءٌ، وأكثر ما يكون في الرُّسغ فلا يُستطاع بسطُه، وعن ابن السِّكِّيت: الفَدَعَةُ مَوضِعُ الفَدَع.
          وقال القزَّاز وصاحب «الجامع» وابن دُريدٍ في «الجمهرة» وأبو المعالي في «المنتهى»: هو انقلابُ الكفِّ إلى إِنْسِيِّها، زاد القزَّاز: وقيل: هو الْتِواء رسغِ الفرس مِنْ قبل الوحش، وإقبال مركب الشَّظاة في الجهة مِنْ وحشها على ما يليها مِنْ رأس الشَّظاة مِنَ اليد الأخرى، ووطءٍ منه على وحشي يديه جميعًا، وقَالَ الخَطَّابيُّ: أصل الفَدَعِ في الرِّجل، وهو رفعُ ما بينها وبين عظم السَّاق، يقال: رجلٌ أَفْدَعُ إذا التوتْ رجلُه مِنْ ذلك الموضع، قال: والكَوَعُ في اليدين هو تعوُّج اليدين مِنْ قِبَلِ الكُوع، وهو رأسُ الزَّند ممَّا يلي الإبهام، وقال الجوهريُّ: رجلٌ أَفْدَعُ بيِّنُ الفَدَع، وهو المعوجُّ الرُّسغِ مِنَ اليد والرِّجل فيكون منقلب الكفِّ أو القدم إلى إِنْسيِّهما، وقال ابن فارسٍ: هو عِوَجٌ في المفاصل كأنَّها زالت عن أماكنها، قال: وقيل: إنَّه انقلابُ الكفِّ إلى إنسيِّهما، يقال: فَدِع بكسر الدَّال، وقال الدَّاوُديُّ: فَدِعَت رجلاه أي ضُربت حتَّى أثَّر فيهما.
          ثانيها: قوله: (عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) يعني الَّتي كانت لهم قبل أن يُفيئَها اللهُ على المسلمين.
          قال الدَّاوُديُّ عن مالكٍ: كانت خيبرُ صلحًا، وإنَّما أخرجهم عمر لقوله _◙_: ((لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ)) والصَّحيح أنَّ خيبرَ أُخذت عَنْوةً، وقد صالحهم على النِّصف لمَّا تخوَّفوا أن يُصنع بهم ما صُنع.
          والَّذي ذكره ابن عبد البرِّ وغيره عن مالكٍ الثَّاني، وهو قول جماعةٍ مِنَ المؤرِّخين البخاريِّ ومسلمٍ، وحكاه ابن سعدٍ عن بُشَيْر بن يسارٍ، وقاله غيرُ واحدٍ أيضًا، وقال بعضهم: فُتح بعضُها عَنْوةً وبعضُها صلحًا.
          وقوله: (نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ) أي إذا أمرنا في حقِّكم بغير ذلك فعلناه كما قاله ابن الجوزيِّ، وفيه جواز العقد مشاهرةً ومشافهةً خلافًا للشَّافعيِّ، واختَلف أصحاب مالكٍ: هل يلزمه واحدٌ ممَّا سمَّى أو لا يلزمه شيءٌ؟ ويكون كلُّ واحدٍ منهما بالخيار كذا في «المدوَّنة»، والأوَّل قول عبد الملك، فإذا شَرع في العمل في النَّخل لزمه سنةٌ.
          وقوله: (هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا) أي عدواتهم متحقِّقةٌ في صدورنا، وفيه أنَّ المسلمين لم يرَوا أنَّ ذلك منهم نقضٌ للعهد أو لعلَّهم لم يتمالؤوا عليه، وفيه أنَّ أموال المسلمين كانت مقسومةً.
          والتُّهمَة: أصلها الواو لأنَّها مِنَ الوَهْم وهي محرَّكة الهاء، وضبطت في بعض النُّسخ بالسُّكون.
          وقوله: (وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ) يقال: جلا القومُ عن مواضعهم جلاءً، وأجليتُهم أنا إجلاءً وجَلَوتُهم قاله ابن فارسٍ، وقال الهرَويُّ: يقال جلا عن وطنه، وأجلى وجلا بمعنًى واحدٍ، والإجلاء: الإخراج مِنَ الوطن والمال على وجه الإزعاج والكراهة.
          وقوله: (فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ) أي عزم، يقال: أجمع الأمرَ إجماعًا إذا عزم، قاله ابن عرفة وابن فارسٍ، ويقال: أَجْمَع على أمره عَزَمَ عليه، وقال أبو الهيثم: أجمعَ أمرَه أي جعله جميعًا بعدما كان متفرِّقًا، وكان إجلاؤه إيَّاهم إلى تيماءَ وأَريحاءَ مِنْ أرض الشَّام، وبنو الحُقَيْقِ هم رؤساؤهم.
          ثالثها: القَلُوصُ: الأنثى مِنَ النَّعام والإبل، وقيل: هي النَّاقة الصابرة مِنَ النُّوق على السَّير وقيل: هي الطَّويلة القوائم.
          وقوله: (كَانَتْ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِي القَاسِمِ) قيل: حلف عمرُ وقال: ما هو بالهَزْل، ولكنَّه الفَصْلُ، يريد قوله _تعالى_: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13-14] وفيه دلالةٌ أنَّ العداوة توجب المطالبة بالجنايات، كما طالبهم عمرُ بفدعهم ابنه، ورجَّح ذلك بأن قال: (ليسَ لَنَا عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ) فعلَّق المطالبة بشاهد العداوة، فأخرجهم مِنَ الأرض على ما كان أوصى به رسولُ الله _صلعم_ وإنَّما ترك عمرُ مطالبتهم بالقِصاص في فَدْعِ ابنه، لأنَّه فَدِعَ ليلًا وهو نائمٌ كما قاله المهلَّب، فلم يعرف ابن عمر أشخاصَ مَنْ فَدَعَهُ، فأشكل الأمر كما أشكل أمر عبد الله بن سهلٍ حين وَدَاه رسول الله _صلعم_ مِنْ عند نفسه.
          وفيه أنَّ أفعال النَّبيِّ _صلعم_ وأقوالَه محمولةٌ على الحقيقة على وجهها لا على الهَزْل حتَّى يقومَ دليلُ المجاز والتَّعريض، وإنَّما أقرَّ _◙_ يهودَ خيبرَ على أن سالمهم في أنفسهم، ولا حقَّ لهم في الأرض، واستأجرهم على المساقاة ولهم شطرُ الثَّمرة، فلذلك أعطاهم عمرُ قيمة شطر الثَّمر مِنْ إبل وأقتابٍ وحبالٍ يستقلُّون بها، إذ لم يكن لهم في رقعة الأرض شيءٌ.
          رابعها: استدلَّ بعضهم مِنْ هذا الحديث أنَّ المُزارِع إذا أَكْرَهَهُ ربُّ الأرض لجنايةٍ بدت منه أنَّ له أن يخرجه بعد أن يبتدئ في العمل ويعطيَه قيمة عمله ونصيبه كما فعل عمرُ، وقال غيره: إنَّما يجوز إخراجُ المساقي والمزارع عند رؤوس الأعوام وتمام الحصاد والجداد.
          خاتمةٌ: التَّرجمة على جواز اشتراط الخيار مِنَ المالك إلى غير أمدٍ، والحديث لا يدلُّ على ذلك كما نَبَّه عليه ابن المنيِّر، قال: والصَّحيح أنَّ الخيار لا بدَّ مِنْ تقييده بمدَّةٍ / يجوز لمثلها الخيارُ، وإن أطلق نزل في كلِّ عقدٍ على ما يليق به مِنَ المدَّة الَّتي في مثلها يقع الخيار، والحديث غيرُ متناولٍ للتَّرجمة لاحتمال أن يُريد: نقرُّكم ما لم يشأ الله إجلاءكم منها لأنَّ المقدور كائنٌ، ولا ينافي وجود استرسال الأحكام الشَّرعية، وقد تنفسخ العقود اللَّازمة بأسبابٍ طارئةٍ وقد لا تنفسخ، ولكن يمتنع مباشرةُ أحدِ المتعاقدين لاستيفاء المنفعة كما لو ظهر فسادُ العامل على المساقاة وجنايته، فإنَّ مذهب مالكٍ إخراجُه، وكذلك مستأجر الدَّار إذا أفسد، فهذا _والله أعلم_ مراد الحديث، أي يستقرُّون فيها ما لم يجاهروا بفسادٍ، فإذا شاء الله إجلاءكم تعاطَيتم السَّبب المقتضيَ للإخراج فأخرجتم، وليس في الحديث أنَّه ساقاهم مدَّةً معيَّنةً إمَّا لأنَّهم كانوا عبيدًا للمسلمين، ومعاملةُ السَّيد لعبده لا يُشترط فيها ما يُشترط في الأجنبيِّ لأنَّ العبدَ مالُ السَّيِّد وله على ماله سلطنة الانتزاع فكان الجميع ماله، وإمَّا لأنَّ المدَّة لم تنقل مع تحرُّرها حينئذٍ.