التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الشروط مع الناس بالقول

          ░12▒ (بابُ: الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ)
          2728- ذكرَ فيه حديثَ ابْن عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بن كعبٍ قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: مُوسَى رَسُولُ اللهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:75] كَانَتِ الأُولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا، {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} {لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ}، {فَانْطَلَقَا} فَوَجَدَا {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَامَهُمْ مَلِكٌ).
          هذا الحديث رواه الإسماعيليُّ بقصَّةٍ في أوَّله مِنْ حديث هشامٍ عن ابن جُرَيجٍ: إنَّا لعند ابن عبَّاسٍ إذ قال: سَلوني، قال ابن جُبيرٍ قلت: جعلني الله فداك، بالكوفة قاصٌّ يقال له نَوْفٌ، يزعُم أنَّه ليس بموسى بني إسرائيل، أمَّا عمرٌو فقال: كَذب عدوُّ الله، وأمَّا يَعلى فقال: حدَّثني أبي... فساقه، أراد البخاريُّ بهذا الباب _والله أعلم_ ليدلَّ على أنَّ ما يقع بين النَّاس في محاوراتهم فيما يكثر وقوعه بينهم، فإنَّ الشَّرط بالقول يُغني في ذلك عن الشرط بالكتاب والإشهاد عليه، ألا ترى أنَّ موسى لم يُشْهِد أحدًا على نفسه حين قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا} [الكهف:69]؟ وكذلك الخَضِر حين شرط على موسى ألَّا يسأله عن شيءٍ حتَّى يُحدِث له منه ذكرًا لم يكتب / بذلك كتابًا ولا أشهد شهودًا.
          وإنَّما يجبُ الإشهاد والكتاب في الشُّروط الَّتي يَعُمُّ المسلمين نفعُها، ويُخاف أنْ يكون في انتقاضها والرُّجوعِ فيها جرمٌ وفسادٌ، وكذا ما في معناها ممَّا يخصُّ بعضَ النَّاس فاحتيج فيها إلى الكتاب والإشهاد خوفَ ذلك، ألا ترى أنَّ سيِّد الأمَّة كَتب الصُّلح مع سُهَيل بن عمرٍو وأهلِ مكَّة ليكون حاجزًا للمشركين مِنَ النَّقض والرُّجوع في شيءٍ مِنَ الصُّلح وشاهدًا عليهم إن هَمُّوا بذلك؟
          وفيه أنَّ النِّسيان لا يؤاخذ به، ووجوبُ الرِّفق بالعلماء، وألَّا يُهْجَم عليهم بالسُّؤال عن معاني أقوالهم في كلِّ وقتٍ إلَّا عند انبساط نفوسهم وانشراح صدورهم، لا سيَّما إذا شَرط ذلك العالمُ على المتعلِّم، وفيه أنَّه يجوز سؤال العالم عن معاني أقواله وأفعاله لأنَّ موسى سأل الخَضِر عن معنى قتل الغلام وخَرْق السَّفينة وإقامة الجدار، فأخبره بعلل أفعاله ووجهِ الحكمة فيها، وإنَّما كان شرطُه ألَّا يَسأل عن شيءٍ حتَّى يُحْدِث له منه ذكرًا _والله أعلم_ أنَّه أراد أن يتأدَّب عليه في تعليمه، ويأخذ عفوه فيه حتَّى ينشط إلى الشَّرح والتَّفسير، ففي إخباره بتأويل ذلك دليلٌ على أنَّ أفعال الأنبياء وأقوالهم ينبغي أن تعرف معانيها ووجه ما صنعت له، فمعنى قوله: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67] أي إنَّك سترى ما ظاهرُه منكرٌ ولا تصبر عليه لأنَّ الأنبياء والصَّالحين لا يصبرون على ذلك.
          وقوله: (وكَانَتِ الوُسْطَى شَرْطًا) يريد قولَه: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:76].
          وقولُه: ({وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}) [الكهف:73] أي لا تُلْحقْ بي عسرًا، مِنْ رَهِقَه الشَّيءُ إذا غَشِيَه، وقال الفرَّاء: لا تُعْجِلْني، وقيل: لا تضيِّق عليَّ وتكلِّفني عسرًا.
          وقوله _تعالى_: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] أي: يسقط بسرعةٍ، وروي: (يَنْقَاصَ) بصادٍ غير معجمةٍ، وقرأه ابن عبَّاسٍ: (أَمَامَهُمْ) وقرأه الجماعة: {وَرَاءَهُمْ} قيل: المعنى واحدٌ، وقيل: هو بمعنى: خلف على بابه، كأنَّه على طريقهم إذا رجعوا، والأوَّل أَولى لتفسيره في قراءة ابن عبَّاسٍ واللُّغةُ تجوِّزُه، لأنَّ ما يوارى عنك فهو وراء وإن كان أمامك، وقد اختلف فيه: هل هو من الأضداد؟ فقال أبو عُبيدة وقُطرُبٌ والأَزهريُّ وابن فارسٍ وغيرهم: نعم، وقال الفَّراء وأحمد بن يحيى: أمام ضدُّ وراء، وإنما يكون مِنَ الأضداد في الأماكن والأوقات، يقول الرَّجل إذا وعد وعدًا في رجبٍ لرمضان ثُمَّ قال: مِنْ ورائك شعبانُ يجوز وإن كان أمامه لأنَّه يخلفه إلى وقت وعده، وكذلك {وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} يجوز لأنَّه يكون أمامهم وطلبهم خلفه فهو مِنْ وراء مطلبهم.