شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس

          ░15▒ بابُ: يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلى الْعَصْرِ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ.
          فيه: أَنَسٌ قَالَ: (كَانَ النَّبيَّ صلعم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ(1) أَخَّرَ الظُّهْرَ إلى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ، وَإِذَا زَاغَتْ(2) صَلَّى الظُّهْرَ ثمَّ(3) رَكِبَ) وترجم له بابُ إذا ارتَحَلَ بَعدَ ما زَاغَتِ الشَّمسُ صلَّى الظُّهر ورَكِبَ(4). [خ¦1111]
          أجمع العلماء أنَّه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشَّمس فإنه يؤخِّر الظُّهر إلى(5) العصر، كُلٌّ على أصله من القول بالاشتراك(6)، أو يقيم(7)، واختلفوا في وقت جمع المسافر بين الصَّلاتين، فذهبت طائفةٌ إلى أنَّه يجمع بينهما في وقت أحدهما، هذا قول عطاء بن أبي رَبَاحٍ وسالمٍ وجمهور علماء المدينة أبي الزِّناد وربيعة وغيرهم، وحكى أبو الفرج مثله عن مالكٍ(8)، وبه قال الشَّافعيُّ وإسحاق، قالوا: إن شاء جمع بينهما في وقت الأولى، وإن شاء جمع(9) في وقت الآخرة.
          وقالت طائفةٌ: إذا أراد المسافر الجمع أخَّر الظُّهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء(10)، رُوي(11) هذا عن سعد بن أبي وقَّاصٍ وابن عمر، وهو قول مالكٍ في «المدوَّنة(12) »، وإليه ذهب أحمد بن حنبلٍ، وقال: وجه الجمع أن يؤخِّر الظُّهر حتَّى يدخل وقت العصر ثمَّ ينزل فيجمع بينهما، ويؤخِّر المغرب كذلك، وإن(13) قدَّم فأرجو(14) ألَّا يكون به بأسٌ.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلِّي الظُّهر في آخر وقتها، ثمَّ يمكث قليلًا، ثمَّ يصلِّي العصر في أوَّل وقتها، ولا يجوز الجمع بين الصَّلاتين(15) في وقت أحدهما إلَّا بعرفة والمزدلفة.
          وحجَّة أهل المقالة الأولى(16) نَصٌّ ودليلٌ، فأمَّا(17) الدَّليل: فإنَّ معنى حديث أنسٍ عندهم أنَّ النَّبيَّ صلعم كان إذا زاغت الشَّمس صلَّى الظُّهر ثمَّ ركب، أي صلَّى الظُّهر والعصر ثمَّ ركب لأنَّه ◙ إنَّما(18) كان يؤخِّر الظُّهر إلى العصر إذا لم تزغ الشَّمس، فكذلك(19) يقدِّم العصر إلى الظُّهر إذا زاغت الشَّمس، و على ذلك تأوَّلوا(20) حديث ابن عبَّاسٍ الَّذي في الباب قبل هذا: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كانَ يجمَعُ بينَ الظُّهرِ والعَصرِ إذا كانَ على ظَهرِ سَيرٍ(21)))، [خ¦1107] أنَّ ذلك كان إذا زاغت الشَّمس.
          وأمَّا النَّصُّ: بحديث(22) معاذ ذكره أبو داود من حديث اللَّيث(23): ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كانَ إذا زاغَتِ الشَّمسُ قبلَ أنْ يرتحِلَ جمعَ بينَ الظُّهرِ والعَصرِ)).
          وأمَّا من قال: إنَّ الجمع لا يكون إلَّا في آخر وقت الظُّهر وأوَّل وقت العصر، فلم يؤخِّر النَّبيُّ صلعم الجمع إلى وقت العصر إلَّا إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشَّمس خاصَّةً، وأمَّا إذا ارتحل بعد أن تزيغ(24) الشَّمس، فإنَّه كان يجمع في(25) أوَّل وقت الظُّهر ولا يؤخِّر الجمع إلى العصر، فقولهم خلاف الحديث(26)، وكذلك قول الكوفيِّين خلاف الآثار، وأبينها(27) في ذلك حديث معاذ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كانَ في غزوةِ تبوكَ إذا زاغَتِ الشَّمسُ قبلَ أنْ يرتحلَ جمع بين الظُّهرِ والعصرِ، وإنْ ترحَّلَ قبلَ أنْ تزيغَ الشَّمسُ أخَّرَ الظُّهرَ إلى العصرِ(28)، وفي المغرِبِ والعِشاءِ كذلِكَ))، فبان(29) صلعم كان يجمع بينهما مرَّةً في وقت الظُّهر، ومرَّةً في وقت العصر، والمغرب والعشاء مرَّةً في وقت المغرب، ومرَّةً في وقت(30) العشاء، بخلاف قول(31) الكوفيِّين.
          وكذلك قول(32) أنسٍ: ((إنَّ النَّبيَّ صلعم كانَ إذا ارتَحلَ قبلَ أنْ تزيغَ الشَّمسُ أخَّرَ الظُّهرَ إلى وقتِ العصرِ، ثمَّ يجمَعُ)) مخالفٌ لقولهم أيضًا لأنَّهم(33) لا يجيزون صلاة الظُّهر في وقت العصر في الجمع بين الصَّلوات.
          وحجَّةٌ! أخرى من طريق النَّظر(34): لو كان كما قالوا لكان ذلك أشدَّ حرجًا وضيقًا من الإتيان بكلِّ صلاة في وقتها؛ لأنَّ وقت كلِّ صلاةٍ واسعٌ، ومراعاته أمكن من مراعاة طرفي الوقتين، ولو كان الجمع كما قالوا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والفجر، ولَمَّا أجمع العلماء أنَّ الجمع بينهما لا يجوز عُلم(35) أنَّ المعنى(36) في الجمع بين الظُّهر والعصر(37) والمغرب والعشاء إنَّما(38) وردت به السُّنَّة للرُّخصة في اشتراك وقتيهما، فإذا(39) صُلِّيَتْ كلُّ صلاةٍ في وقتها فلا يُسمَّى جمعًا.
          واحتجَّ أبو الفرج المالكيُّ بما(40) ذكر(41) عن مالكٍ أنَّ له أن يجمع بينهما في وقت أحدهما(42): أنَّ النَّبيَّ صلعم قدَّم العصر إلى الظُّهر بعرفة، وأخَّر المغرب إلى العشاء بالمزدلفة، وقال: هذا أصل هذا الباب لأنَّ النَّبيَّ صلعم سافر فقصر وجمع بينهما، والجمع للمسافر(43) أيسر خطبًا(44) من التَّقصير. /


[1] قوله: ((فيه: أَنَسٌ قَالَ: كَانَ...قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ)) ليس في (ص).
[2] زاد في (ص): ((الشمس)).
[3] في (ق) و (م) و(ص): ((و)).
[4] قوله: ((وترجم له بابُ إذا ارتَحَلَ بَعدَ ما زَاغَتِ الشَّمسُ صلَّى الظُّهر ورَكِبَ)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((عن)).
[6] في (ق) و (م): ((على أصله من الاشتراك))، وفي حاشية (م) إشارة إلى نسخة: ((من القول بالاشتراك)).
[7] في (م) و (ق): ((او نفيه)).
[8] في (ص): ((عن مالك مثله)).
[9] قوله: ((جمع)) ليس في (ق) و (م).
[10] في (ص): ((وعجَّل المغرب وأخَّر العشاء)).
[11] في (ص): ((وروي)).
[12] في (ز) و (ي) و(ص): ((المزنية)).
[13] في (م): ((فإن)).
[14] في (ص): ((فأرجوا)).
[15] في (ق) و (م): ((صلاتين)).
[16] قوله: ((الأولى)) زيادة من (ق) و (م)، وهي ليست في (ص).
[17] في (ص): ((أمَّا)).
[18] في (ق) و (م): ((لما)).
[19] زاد في (ق) و (م): ((كان)).
[20] في (ق) و (م): ((إذا زاغت وكذلك تأولوا)). في (ص): ((إذا زاغت الشَّمس وصلَّى هذا تأوَّلوا)).
[21] في (ق) و (م): ((يسير)).
[22] في (ق) و (م): ((فحديث)).
[23] زاد في (ق) و (م): ((عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ)).
[24] في (ق) و (م): ((يعد ما تزيغ)).
[25] قوله: ((في)) ليس في (ق) و (م).
[26] في (ق) و (م): ((للحديث)).
[27] في (ق): ((وأبينهما)).
[28] في (ق) و (م): ((أخر الظهر حتى ينزل للعصر)).
[29] في (ص): ((فكأنَّه)).
[30] في (ص): ((قول)).
[31] قوله: ((قول)) ليس في (ق) و (م).
[32] في (ق) و (م): ((حديث)).
[33] في (ص): ((مخالف لقولهم أنَّهم)).
[34] قوله: ((من طريق النظر)) ليس في (ق). زاد في (ق) و (م): ((أن الجمع)).
[35] قوله: ((علم)) ليس في (ق).
[36] في (م): ((المعتبر)).
[37] قوله: ((والعصر)) ليس في (ص).
[38] في (ز) و(ق): ((أيضًا)) والمثبت من (ق) و (م). في (ص): ((والمغرب والعشاء والعشاء أيضًا ووردت)).
[39] في (ق) و (م): ((وإذا)).
[40] في (ق) و (م): ((الفرج لما)).
[41] في (ص): ((ذكره)).
[42] في المطبوع و(ص): ((إحداهما)).
[43] في (ق): ((للمسافرين)).
[44] في (ق): ((حظًا)).