شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: يقصر إذا خرج من موضعه

          ░5▒ بابُ تَقْصِيرِ الصَّلاةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ.
          وَخَرَجَ عليُّ بْنُ أبي طَالِبٍ ☺، فَقَصَرَ(1) وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ، قَالَ: لا، حَتَّى نَدْخُلَهَا.
          وفيه(2) أَنَسٌ قَالَ: (صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبيِّ صلعم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، والعصرَ(3) بِذِي(4) الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ). [خ¦1089]
          وفيه عَائِشَة، قَالَتِ: (الصَّلاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، / وَأُتِمَّتْ صَلاةُ الْحَضَرِ). [خ¦1090]
          قَالَ الزُّهريِّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ.
          أجمع فقهاء الأمصار أنَّ المسافر لا يقصر الصَّلاة حتَّى يبرز عن(5) بيوت القرية التي يخرج منها، واختلفت الرِّواية عن مالكٍ في صفة ذلك، ففي «المدوَّنة» وكتاب ابن عبد الحكم، عن مالكٍ(6): لا يقصر(7) حتَّى يبرز عن(8) بيوت القرية، ثمَّ لا يزال يقصر حتَّى يدنو منها راجعًا، كقول الجماعة، وروى ابن وهبٍ عن مالكٍ في «المبسوط» أنَّه(9) قال: إذا خرج المسافر من المصر الَّذي فيه أهله فلا أرى أن يقصر حتَّى يخرج من حدِّ ما تجب فيه الجمعة، وذلك ثلاثة أميالٍ.
          وروى ابن الماجِشون ومطرِّف عن مالكٍ: أنَّه استحبَّ ذلك، لأنَّ الثَّلاثة أميالٍ(10) مع المصر كقرارٍ واحدٍ، وإذا رجع قصر إلى حَدِّه ذلك، وإذا كانت قريةٌ لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بيوتها المتِّصلة بها، ذكره ابن حبيبٍ، واختار(11) قومٌ من السَّلف تقصير الصَّلاة قبل الخروج من بيوت القرية. قال ابن المنذر: روِّينا عن الحارث بن أبي ربيعة أنَّه أراد سفرًا فصلَّى بهم ركعتين في منزله، ومنهم(12) الأسود بن يزيد وغير واحدٍ من أصحاب عبد الله، وروِّينا معنى هذا القول عن عطاء بن أبي رَبَاحٍ، وسليمان بن موسى. وشَذَّ مجاهدٌ فقال: إذا خرجتَ مسافرًا فلا تقصر لو مكثت(13) حتَّى اللَّيل، ولا أعلم أحدًا وافقه عليه.
          قال المُهَلَّب: إنَّما يقصر الصَّلاة من خرج من موضع إذا نوى سفرًا يقصر الصَّلاة في مثله(14) على ما تقدَّم من مذاهب العلماء في ذلك، لأنَّ مشقَّة السَّفر له لازمةٌ(15) من حين خروجه من موضعه، لكن لا يتمُّ إلَّا بالمبيت والشُّغل بأمر المعاش المتَّصل بمشقَّة السَّعي مع الاحتراس باللَّيل وغيره، وكذلك تبقى على الرَّاجع المشقَّة حتَّى يحلَّ عن نفسه بوصوله إلى منزله.
          ومن أجاز من التَّابعين تقصير الصَّلاة قبل الخروج من البيوت فقوله مردودٌ بفعله صلعم حين أتمَّ(16) الظُّهر بالمدينة ثمَّ خرج فقصر العصر بذي الحليفة، وإنَّما لزم التَّقصير إذا خرج من بيوت القرية لا قبل ذلك، لأنَّ السَّفر يحتاج إلى عملٍ ونيَّةٍ، وليس كالإقامة التي تصحُّ بالنيَّة دون العمل(17).
          وحديث أنسٍ حجَّةٌ لجماعة(18) الفقهاء أهل المقالة الأولى(19)، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلعم حين أتمَّ(20) الظُّهر بالمدينة، وقصر العصر بذي الحليفة إنَّما فعل ذلك(21) لأنَّه ◙ كان متوجِّهًا إلى مكَّة، ذكره البخاريُّ في بعض طرق الحديث، لا أنَّه كان سفره إلى ذي الحليفة فقط، وبين المدينة وذي الحليفة من ستَّة أميالٍ إلى سبعةٍ، فلا حجَّة لمن أجاز التَّقصير(22) في قليل السَّفر ولمن خرج إلى بستانه، لأنَّ الحجَّة في السُّنَّة لا فيما خالفها(23)، وإنَّما ترك عليٌّ ☺ التَّقصير وهو يرى الكوفة حتَّى يدخلها، لأنَّه كان في حكم المسافر في ذلك الوقت، فلو أراد أن يصلِّي حينئذٍ لصلَّى صلاة سفرٍ وكان له تأخير الصَّلاة إلى الكوفة، إذا كان في سعةٍ من الوقت ليصلِّيها صلاة حضرٍ، فاختار ذلك أخذًا بالأفضل واحتياطًا للإتمام حين طمع به وأمكنه.
          وأما حديث عائشة فقد تقدَّم القول فيه قبل هذا فلا معنى لتكريره، وقد رُوي عن النَّبيِّ صلعم الإتمام مثل فعل عائشة وعثمان، حدَّثنا المُهَلَّب قال: حدَّثنا أبو الحسن عليُّ بن بُنْدَار الفَربريُّ بمكَّة، قال: حدَّثنا أبو الحسن الدَّارقطنيُّ: حدَّثنا المُحَامِليُّ: حدَّثنا سعيد بن محمَّد بن ثوابٍ(24): حدَّثنا أبو عاصمٍ: حدَّثنا عُمَر بن سعيدٍ: عن عطاء بن أبي رَبَاحٍ عن عائشة: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَقصِرُ في السَّفرِ ويُتمُّ ويفطِرُ ويصُومُ(25))) قال الدَّارقطنيُّ: هذا إسنادٌ صحيحٌ.
          قال الدَّارقطنيُّ: وحدَّثنا أبو بكر النَّيسابوريُّ: حدَّثنا عبد الله بن محمَّد بن عَمْرو: حدَّثنا محمَّد بن يوسف الفَريابيُّ: حدَّثنا العلاء بن زهيرٍ عن عبد الرَّحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت: خرجنا معَ رسولِ اللهِ صلعم في عُمْرةٍ في رَمَضانَ، فأَفطرَ رسولُ اللهِ صلعم وصَمتَ وقصرَ وأتممتُ، فقال: ((أَحسَنتِ يا عائشةُ))، قال الدَّارقطنيُّ: وعبد الرَّحمن قد أدرك عائشة، ودخل عليها وهو مراهقٌ(26).


[1] في (ق): ((يقصر)).
[2] في (م): ((فيه)).
[3] قوله: ((والعصر)) ليس في (ق).
[4] في (ز) و (ق): ((وبذي)) والمثبت من (م) و(ي) و(ص).
[5] في (ق) و(م): ((من)).
[6] زاد في (ق) و(م): ((أنه)).
[7] قوله: ((يقصر)) زيادة من (ي) و (م). وفي (ص): ((يبرز)) وضرب عليها.
[8] في (م): ((من)).
[9] قوله: ((أنه)) ليس في (م).
[10] في (م): ((الأميال))، في (ص): ((الأيام)). قوله: ((وروى ابن الماجشون.... الثلاثة أميال)) ليس في (ق).
[11] في (ق): ((وأجاز)).
[12] في (ق): ((وفيهم)).
[13] في (م): ((فلا تقصر يومك)).
[14] قوله: ((في مثله)) ليس في (م).
[15] في (ق) و(م): ((مشقة السفر لازمة)). في (ص): ((مشقة السفر لازمة له)).
[16] في (ص): ((أتمُّوا)).
[17] في (ق) و(م): ((عمل)).
[18] في (ص): ((لجميع)).
[19] قوله: ((الأولى)) ليس في (ص).
[20] في (ق) و(م): ((واحتج بحديث انس من أجاز التقصير في يسير السفر ولمن خرج إلى بستان [في (ق): ((بستانه)).] وقالوا إن النبي صلعم أتم)).
[21] قوله: ((إنَّما فعل ذلك)) ليس في (ص).
[22] في (ص): ((القصر)).
[23] قوله: ((إنما فعل ذلك، لأنه ◙ كان متوجهًا.... في السُّنَّة لا فيما خالفها)) ليس في (ق) و (م)، وفيهما: ((وبينهما ستة أميال أو سبعة فيقال لهم أن النبي ◙ لم يسافر إلى ذي الحليفة فقط وإنما قصر العصر بذي الحليفة في توجهه إلى مكة ذكر ذلك البخاري في كتاب الحج في بعض طريق الحديث في باب رفع الصوت بالإهلال فهو حجة عليهم)).
[24] في (ي): ((سعيد بن عمر بن براء)). في (ص): ((سعيد بن عمر بن قراب))
[25] في (ص): ((ويتمُّ ويصوم ويفطر)).
[26] قوله: ((وقد روي عن النبي صلعم الإتمام مثل.... ودخل عليها وهو مراهق)) ليس في (ق) و(م)، و فيهما بدله: ((فإن قيل فما معنى ذكره في هذا الباب قيل هو في معنى حديث انس وموضع الترجمة منه قول عائشة ((فأقرت صلاة السفر)) فدل هذا أنه لا يلزم المسافر التقصير إلا إذا دخل في سفره وشرع فيه وفارق مصر وسمي مسافرًا لا قبل ذلك)).