شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب في كم يقصر الصلاة؟

          ░4▒ بابٌ: في(1) كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاةَ؟
          وَسَمَّى النَّبيُّ صلعم السَّفرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ في أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وهي سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا.
          وفيه(2): ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاثًا إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ). [خ¦1086]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ). [خ¦1088]
          اختلف العلماء في قدر المسافة التي يستباح فيها القصر في الصَّلاة فكان مالكٌ يقول: يقصر في مسيرة يومٍ وليلةٍ، ثمَّ رجع فقال: يقصر في(3) أربعة بُرُدٍ، وهي ثمانية وأربعون ميلًا، كقول ابن(4) عمر وابن عبَّاسٍ، وبه قال اللَّيث والشَّافعيُّ في أحد أقواله، وهو قول أحمد وإسحاق، وروى أشهب عن مالكٍ فيمن خرج إلى ضيعته(5) وهي على رأس خمسةٍ وأربعين ميلًا، قال: يقصر، وروى أبو زيدٍ(6) عن ابن القاسم فيمن قصر في ستَّةٍ وثلاثين ميلًا، قال: لا يعيد.
          وقال ابن حبيبٍ(7): يقصر في أربعين ميلًا، وهي(8) قريبٌ من أربعة بُرُدٍ. وقال الأوزاعيُّ: عامَّة العلماء(9) يقولون: مسيرة يومٍ تامٍّ، وبه نأخذ. وقالت طائفةٌ: يقصر في يومين، رُوي هذا عن ابن عمر والحسن البصريِّ والزُّهريِّ، وحكي مثله عن الشَّافعيِّ. وقالت طائفةٌ: لا يقصر إلَّا من سافر ثلاثة أيَّامٍ، رُوي هذا عن ابن مسعودٍ، وبه قال الثَّوريُّ والكوفيُّون.
          وقال الأوزاعيُّ: كان أنس بن مالكٍ(10) يقصر الصَّلاة في خمسة(11) فراسخ، وذلك(12) خمسة عشر ميلًا. وحُكي عن(13) من لا يعتدُّ بخلافه من أهل الظَّاهر أنَّه يجوز التَّقصير في قليل السَّفر وكثيره إذا جاوز البنيان ولو قصد إلى بُستانه، وحكوه عن عليِّ بن أبي طالبٍ ☺.
          قال ابن القصَّار: والحجَّة لقول مالكٍ ومن وافقه حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: (لا يَحِلُّ(14) لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ / بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ)، فجعل لليوم واللَّيلة حكمًا خلاف حكم الحضر، فعلمنا أنَّه الزَّمن(15) الفاصل بين السَّفر الَّذي(16) يجوز فيه القصر وبين السَّفر الَّذي لا يجوز(17) فيه، قال: وهذا قول ابن عمر وابن عبَّاسٍ(18).
          واحتجَّ الكوفيُّون بحديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((لا تُسَافرُ المرأةُ ثلاثًا إلَّا معَ ذِي مَحْرمٍ)) وقالوا(19): لما اختلفت الآثار والعلماء في المسافة التي تقصر فيها الصَّلاة وكان الأصل الإتمام لم يجب أن ننتقل عنه إلَّا بيقين، واليقين ما لا تنازع فيه، وذلك ثلاثة أيَّامٍ.
          قال ابن القصَّار: فالجواب(20) أنَّ النَّبيَّ صلعم قد ذكر اليوم واللَّيلة ونصَّ عليه فهو أولى من دليل خبركم أنَّ ما كان دون الثَّلاث فبخلافها، والدَّليل إذا اجتمع(21) مع النَّص قُضي بالنَّص عليه، وقال(22) الأصيليُّ: والدَّليل على أنَّ المسافر يقصر في يومٍ وليلةٍ قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184]، فلمَّا نقل الله المسافر من حال الصِّيام إلى حال الإفطار في سفر(23) يومٍ، فكذلك يجب أن ينتقل من التَّمام إلى القصر في ذلك.
          وقال(24) غيره: وأمَّا اختلاف الآثار في يومٍ وليلةٍ وفي(25) ثلاثة أيَّامٍ، وقد رُوي في يومين(26)، فالمعنى الَّذي تأتلف(27) عليه هذه الأخبار(28) أنَّها كلَّها خرجت على جواب سائلين مختلفين، كأنَّ سائلًا سأله صلعم: هل تسافر المرأة يومًا(29) وليلة مع غير ذي محرم؟ فقال: لا، ثمَّ سأله آخر عن مثل ذلك في يومين، فقال: لا، ثمَّ سأله آخر عن مثل ذلك في ثلاث، فقال: لا، فروى عنه(30)◙ كلُّ واحدٍ ما سمع وليس بتعارضٍ، ولا نسخٍ، لأنَّ الأصل ألَّا تسافر المرأة أصلًا، ولا تخلو(31) مع غير ذي محرمٍ(32)، لأنَّ الدَّاخلة عليها في اللَّيلة الواحدة كالدَّاخلة عليها في الثَّلاث وهي علَّة المبيت والمغيب على المرأة في ظلمة اللَّيل واستيلاء النَّوم على الرُّفقاء فيكون الشَّيطان ثالثهما فقويت الذَّريعة وظهرت الخشية على ناقصات العقل والدِّين، وقد قال صلعم: ((لا يَخلُوَنَّ رجُلٌ بامرَأَةٍ لَيسَتْ بذِي مَحْرَمٍ مِنهُ)). وقال صلعم: ((إنِها صَفِيَّةُ)).
          وقد(33) احتجَّ الكوفيُّون بحديث ابن عمر وأبي هريرة، فقالوا: لا يحلُّ للمرأة أن تخرج إلى الحجِّ مع غير ذي محرمٍ، وجعلوا المحرم للمرأة سبيلًا من سبل الحجِّ، وقال مالكٌ وغيره: تخرج في الرِّفقة المأمونة مع جماعة النِّساء وإن لم تكن(34) لها محرمٌ.
          وقال المُهَلَّب(35): وقوله صلعم: (لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ(36) يَوْمًا وَلَيْلَةً إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ)، مبنيٌّ(37) على فرض الله ╡ اللازم للنِّساء من وجوب الحجِّ عليهنَّ، وفي قوله: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ) شاهدٌ أنَّه إنَّما نهاها عن السَّفر الَّذي لا يلزمهنَّ، ولهنَّ استحلاله وتركه فمنعهنَّ ◙ من الأسفار المختارة إلَّا(38) الضَّروريَّة الجماعيَّة التي لا تعدم فيها المرافقة، ألا ترى اشتراط مالكٍ ☼ خروجها للحجِّ في جماعة النَّاس المرافقين(39) بالغة الدِّين في سفر الطَّاعة لله ╡، واستشعارهم الخشية له، ولذلك سنَّ(40) صلعم الحجَّ بأميرٍ(41) أو سلطانٍ محافظٍ وإمامٍ معلِّم يحفظ الضَّيعة ويضمُّ القَاذَّة(42) ويردُّ الشاذَّة، ولا ينفرد أحدٌ عن الجماعة، ولا تتَّفق الأعين كلُّها على الغفلة، ولا تجتمع على النَّوم في وقتٍ واحدٍ، فلابدَّ من وجود المراقبة من الجماعة، فضعف الخوف بحضور الكثرة، وسأزيد هذا المعنى بيانًا في باب حجِّ النساء في آخر كتاب الحجِّ، إن شاء الله تعالى. [خ¦1862]
          وما حكاه الأوزاعيُّ عن أنسٍ(43) وقولُ أهل الظَّاهر فالجماعة على خلافه، وفي بيان الحجَّة لمالكٍ(44) ما ينتظم الرَّدُّ عليه لأنَّ قوله صلعم: ((لا تُسافِرُ امرأَةٌ يومًا ولَيلَةً إلَّا مَعَ ذِي حُرمَةٍ(45) مِنْها)). قد أثبت للسَّفر حرمةً إذا كان يومًا وليلةً فدلَّ أنَّ ما دونه بخلافه، وإذا لم يكن إلَّا حضرٌ أو سفرٌ ولم يكن لما دون اليوم واللَّيلة حرمة صحَّ أنَّه في معنى الحضر.


[1] قوله: ((في)) ليس في (ق).
[2] في (ق) و(م): ((فيه)).
[3] زاد في (م): ((مسافة)).
[4] في (ق) و (م): ((روي هذا عن ابن)).
[5] في (ق): ((ضيعة))، في (ص): ((لضيعته)).
[6] في (ز): ((يزيد)) والمثبت من باقي النسخ. في (ص): ((ابن زيد)).
[7] في (ص): ((وقال أبو حنيفة)).
[8] في (ق) و (م): ((وهو)).
[9] قوله: ((عامَّة العلماء)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((بن مالك)) ليس في (ق) و(م).
[11] في (ص): ((خمس)).
[12] في (ق) و(م): ((وهي)).
[13] قوله: ((عن)) ليس في (م).
[14] في (ق) و(م): ((ومن وافقه قوله ◙ لا يحل)).
[15] في (ق) و (م) و(ص): ((الزمان)).
[16] قوله: ((الذي)) زيادة من (م) و (ي) و(ص).
[17] زاد في (ق) و(م): ((ذلك)).
[18] قوله: ((قال: وهذا قول ابن عمر، وابن عباس)) ليس في (ق).
[19] في (ق): ((فقالوا)).
[20] في (ق) و(م): ((فيقال لهم))، في (ص): ((والجواب)).
[21] في (ق): ((جمع)).
[22] في (ق) و (م) و(ص): ((قال)).
[23] في (ق): ((ممشى))في (م): ((مشي)).
[24] في (ق) و(م): ((قال)).
[25] قوله: ((في)) ليس في (ق) و(م).
[26] زاد في (ق) و(م): ((للذي [في (م): ((الذي)).] قال به الشافعي)).
[27] في (ص): ((قابلت)).
[28] قوله: ((هذه الأخبار)) ليس في (ق).
[29] في (ص): ((يوم)).
[30] قوله: ((عنه)) ليس في (ق).
[31] في (ص): ((ولا تخلوا)).
[32] زاد في (ق) و(م): ((قال المهلب)).
[33] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[34] في (ص): ((يكن)).
[35] في (ق): ((قال)).
[36] في (ق) و(ص): ((المرأة)).
[37] صورتها في (م): ((منفي)).
[38] في (ق) و(ص): ((لا)).
[39] في (ص): ((في جماعة المترافقين)).
[40] في (ص): ((بين)).
[41] زاد في (ق): ((مراع)).
[42] في (ص) صورتها: ((الفات)).
[43] في (ز) و(ي) و(ص): ((وأنس)) والمثبت من باقي النسخ.
[44] في (ق): ((لقول مالك)).
[45] في (ص): ((محرم)).