شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {يحول بين المرء وقلبه}

          ░14▒ بابٌ: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}
          فيه: ابنُ عُمَرَ: (كَثِيرًا مَا كَانَ النَّبيُّ صلعم يَحْلِفُ: لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ). [خ¦6617]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم لابنِ صَيَّادٍ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ، قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلا تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَلا خَيْرَ لَكَ في قَتْلِهِ). [خ¦6618]
          قولُه(1) تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال:24]، يقتضي النَّص منه تعالى على خلقِه للكفر(2) والإيمان بأن يحول بين قلب الكافر والإيمان الَّذي أمرَه به، فلا يكتسبُه إذ لم يقدِّرْه(3) عليه، بل أقدرَه على ضدِّه وهو الكفر، ويحول بين المؤمن وبين الكفر الَّذي نهاه عنه بأن لم يقدِّرْه عليه، بل أقدرَه على الإيمان الَّذي هو به متلبِّس وإذا خلق لهما جميعا القدرة(4) على ما هما مكتسبان له مختاران لاكتسابِه فلا شكَّ أنَّه خالق لكفرِهما وإيمانِهما، لأنَّ خلقَه لكفر أحدِهما وإيمان الآخر مِن جنس خلق قدرتَيْهما عليهما، ومحال كونه قادرًا على شيء غير قادر على خلافِه أو ضدِّه أو مثلِه، فبان أنَّه خالق بهذا النَّص لجميع كسب العباد، خيرِها وشرِّها، وهذا معنى قولِه ╕: (لَا وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ) لأنَّ معنى ذلك تقليبُه قلب عبدِه عن إيثار الإيمان إلى إيثار الكفر، وعن إيثار الكفر إلى إيثار الإيمان، وكان فعل الله تعالى ذلك عدلًا فيمَن أضلَّه وخذلَه، لأنَّه لم يمنعهم حقًا وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنَّما منعهم ما كان له أن يتفضَّل به عليهم لا ما وجب لهم، وأضلَّهم لأنَّهم ملك مِن ملكِه / خلقَهم على إرادتِه لا على إرادتِهم، فكان ما خلق فيهم مِن قوة الهداية والتَّوفيق على وجه التَّفضُّل(5)، وقد بيَّن هذا المعنى إياس بن معاوية؛ ذكر الآجري بإسنادِه عن حبيب بن الشَّهيد قال: جاءوا برجل يتكلَّم في القدر إلى إياس بن معاوية فقال له إياس: ما تقول؟ قال: أقول إنَّ الله أمر العباد ونهاهم فإنَّ الله لا يظلمُهم شيئًا. فقال له إياس: أخبرني عن الظُّلم، تعرفُه أو لا تعرفُه. قال: بل(6) أعرفُه. قال: ما الظُّلم؟ قال: أن يأخذ الرَّجل ما ليس له. قال: فمَن أخذ ما له ظلم؟ ! قال: لا. قال إياس: فإنَّ لله ╡ كلَّ شيء.
          وقال عِمْرَان بن حُصين لأبي الأسود الدُّؤلي: لو عذَّب الله أهل السَّموات والأرض لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحِمهم لكانت رحمتُه وُسْعٌ(7) لهم، ولو أنفقت مثل أُحد ذهبًا ما تُقُبِّل منك حتى تؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه.
          وروي مثل ذلك عن ابن مسعود وأُبَي بن كعب وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت، وقال زيد: سمعتُه مِن رسول الله صلعم إلَّا أنَّه قال: ((وَلَو رَحِمَهُمْ كَانَتْ(8) رَحْمَتُهُ لَهُم خَيرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ)).
          وموافقة الحديث للتَّرجمة قول النَّبي صلعم لعمر: (إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَا تُطِيْقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ) يعني أنَّه إن كان الدَّجال قد سبق في علم الله خروجُه وإضلالُه للنَّاس فلن يُقْدِرَكَ خالقُك على قتل مَن سبق في عملِه أنَّه يخرج ويُضِلُّ الناس إذ لو أقدرك على ذلك لكان فيه انقلاب علمِه، والله تعالى منزَّه(9) عن ذلك.


[1] في المطبوع: ((وقوله)).
[2] في (ص): ((الكفر)).
[3] في (ص): ((يقدر)).
[4] في (ص): ((وإذا خلق تعالى لهما القدرة)).
[5] في المطبوع: ((الفضل)).
[6] في (ص): ((أنا)).
[7] في المطيوع: ((اوسع)).
[8] في (ص): ((لكانت)).
[9] قوله: ((منزه)) ليس في (ص).