شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا}

          ░4▒ بَابُ: {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}[الأحزاب:38]
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّما لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا). [خ¦6601]
          وفيه: أُسَامَةَ: (أَتَى إِلَى النَّبيِّ صلعم رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا: لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى، فَكُلٌّ بِأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ). [خ¦6602]
          وفيه: أَبُو سَعِيد: (بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ إِذْ جَاءَه رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ فَقَالَ لَيْس نَسَمَةٌ(1) كَتَبَ اللهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ). [خ¦6603]
          وفيه: حُذَيْفَةُ: (خَطَبَنَا النَّبيُّ صلعم خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُه فَأَعْرِفُه كَمَا(2) يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ). [خ¦6604]
          وفيه: عَلِيٌّ: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ، فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا قَدْ(3) كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَلَا(4) نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَّا خُلِقَ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية[الليل:5]). [خ¦6605]
          قال المُهَلَّب: غرضُه في هذا الباب أن يبيِّن أنَّ جميع مخلوقات الله تعالى(5) المكوَّنات بأمرِه بكلمة كن مِن حيوان أو غيرِه، أو حركات العباد واختلاف إرادتِهم وأعمالِهم بمعاص أو طاعات، كلٌّ مقدَّر بالأزمان والأوقات، لا مزيد في شيء منها ولا نقصان عنها، ولا تأخير لشيء منها عن وقتِه ولا تقديم قبل وقتِه، ألا ترى قولَه صلعم: (لَا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) لتصرف حظَّها إلى نفسها ولتنكح، فإنَّه لا تنال مِن الرِّزق إلا ما قُدِّر لها، كانت له زوجة أخرى أو لم تكن.
          وقولُه صلعم: (اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) فيه دليل على إبطال قول(6) أهل الجبر، لأنَّ التَّيسير غير الجبر، واليسرى العمل بالطَّاعة، والعسرى العمل بالمعصية.
          قال الطَّبري: في حديث عليٍّ أنَّ الله تعالى لم يزل عالمًا بمَن يطيعُه فيُدخِلُه الجنَّة، وبمَن يعصيه فيُدخِلُه النَّار، ولم يكن استحقاق مَن استحق(7) الجنَّة منهم بعلمِه السَّابق فيهم، ولا استحقاق مَن استحقَّ منهم النَّار لعلمِه(8) فيهم، ولا اضطر أحدًا منهم علمُه السَّابق إلى طاعة ولا(9) معصية، ولكنه جلَّ جلالُهُ نفذ علمُه فيهم قبل أن يخلقَهم، وما هم عاملون وإلى ما هم إليه(10) صائرون، إذ كان لا تخفى عليه خافية قبل أن يخلقَهم وبعد ما(11) خلقَهم، ولذلك وصف أهل الجنَّة فقال: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13-14]، إلى قولِه: {وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ. جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الواقعة:22-24]، وقال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:17].
          وكذلك قال في أهل النَّار: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاء اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[فصلت:28]، فأخبر أنَّه أثاب أهل طاعتِه جنَّتَه بطاعتِه، وجازى أهل معصيتِه النَّار بمعصيتِهم إيَّاه، ولم يخبرنا أنَّه أدخل مَن أدخل منهم النَّار والجنَّة لسابق علمِه فيهم، ولكنَّه سبق في(12) علمِه أنَّ هذا مِن أهل السَّعادة والجنَّة وأنَّه يعمل بطاعتِه. وفي هذا أنَّه مِن أهل الشَّقاء وأنَّه يعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها بمعصيتِه؛ فلذلك أمر تبارك وتعالى ونهى ليطيعَه المطيع منهم فيستوجب بطاعتِه الجنَّة / ويستحقَّ العقاب منهم العاصي بمعصيتِه(13) فيدخل بها النَّار، ولتتمَّ حجَّة الله تعالى على خلقِه.
          فإن قال قائل: فما معنى قولِه صلعم: (اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) إن كان الأمر كما وُصِفَ مِن أنَّ(14) الَّذي سبق لأهل السَّعادة والشَّقاء لم يضطر واحدًا مِن الفريقين إلى الَّذي كان يعمل ويمهد لنفسِه في الدُّنيا ولم يجبرْه على ذلك؟
          قيل: هو أنَّ كلَّ فريق مِن هذين مُسهَّل له العمل الَّذي اختارَه لنفسِه، مُزيَّنٌ ذلك له كما قال جلَّ ثناؤُهُ: {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ. فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(15) [الحجرات:7-8]. وأمَّا أهل الشَّقاء فإنَّه زيَّن لهم سوء أعمالِهم لإيثارِهم لها على العمل بطاعتِه(16) كما قال جلَّ ثناؤُهُ: {إِنَّ الَّذين لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}[النمل:4]، وكما قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ(17)}[فاطر:8]، وهذا يصحِّح ما قلناه مِن أنَّ علم الله تعالى النَّافذ في خلقِه بما هم به عاملون، وكتابَه الَّذي كتبَه قبل خلقِه إيَّاهم بأعمالِهم لم يضطر أحدًا منهم إلى عملِه ذلك، لأنَّ المضطرَّ إلى الشَّيء لا شكَّ أنَّه مكره عليه لا محبٌّ له، بل هو له كاره ومنه هارب، والكافر يقاتل دون كفرِه أهل الإيمان، والفاسق يناصب دون فسوقِه(18) الأبرار، محاماة مِن هذا عن كفرِه الَّذي اختارَه على الإيمان، وإيثارًا مِن هذا لفسقِه على الطَّاعة، وكذلك المؤمن يبذل مهجتَه دون إيمانِه، ويؤثر العناء والنَّصب دون ملاذِّه وشهواتِه حبًا لما هو له مختار مِن طاعة ربِّه ╡ على معاصيه، وأنَّى يكون مضطرًّا إلى ما يعملُه مَن كانت هذه صفتُه(19)؟ فبان أنَّ معنى قولِه صلعم: (اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) هو(20) أنَّ كل فريقي السَّعادة والشَّقاوة مسهَّل له العمل الَّذي اختارَه، مُزَيَّنٌ ذلك له محبَّبٌ إليه كما قلنا(21).


[1] في (ص): ((بنسمةٌ)).
[2] في (ص): ((نسيت فأعرف ما)).
[3] في (ص): ((إلا وقد)).
[4] في (ص): ((أفلا)).
[5] زاد في (ص): ((من)).
[6] في (ص): ((أقوال)).
[7] في (ص): ((يستحق)).
[8] في (ص): ((ولا استحقاقه النار لعلمه السابق)).
[9] في (ص): ((أو)).
[10] قوله: ((إليه)) ليس في المطبوع.
[11] في (ص): ((ولا بعد ما)).
[12] قوله: ((في)) ليس في (ص).
[13] في (ص): ((بمعصيته العاصي)).
[14] قوله: ((أن)) ليس في (ص).
[15] في (ص): (({ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}الآية)).
[16] في (ص): ((على الهدى)).
[17] قوله: (({فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ})) ليس في (ص).
[18] في (ص): ((فسقه)).
[19] في (ص): ((صفاته)).
[20] في (ص): ((وهو)).
[21] قوله: ((محبب إليه كما قلنا)) ليس في (ص).