شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون}

          ░9▒ بَابٌ: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}[الأنبياء:95]
          وَقَوْلِه تَعَالَى: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}[هود:36]، {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:27].
          وقَالَ(1) ابنُ عَبَّاسٍ: {حِرْمٌ} بِالْحَبَشِيَّةِ: وَجَبَ.
          فيه: ابنُ عَبَّاسٍ(2): (مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَه أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيِّ صلعم: إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْنُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِك أَوْ يُكَذِّبُهُ(3)). [خ¦6612]
          قال(4) المُهَلَّب: معنى قولِه تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}[الأنبياء:95]، أي وجب عليهم أنَّهم لا يتوبون، وحرام وحِرْم معناهما واحد، والتَّقدير: وحرام على قرية أردنا إهلاكَها التَّوبة مِن كفرِهم، وهذا كقولِه تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}[هود:36]، أي قد تقدَّم(5) علم الله تعالى في قوم نوح ╕ أنَّه لا يؤمن منهم غير مَن آمن(6)، ولذلك قال نوح ╕: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(7)}[نوح:26-27]، إذ قد أعلمتني أنَّه لن يؤمن منهم إلَّا مَن قد آمن، فأهلكَهم لعلمِه تعالى أنَّهم لا يرجعون إلى الإيمان، وموافقة التَّرجمة للحديث هو قولُه ╕: (إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا) فأخبر أنَّ الزِّنا ودواعيه كلُّ ذلك مكتوب مُقدَّر على العبد غير خارج مِن سابق قدرِه.
          وقولُه: (أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ) إدراكُه له مِن أجل أنَّ الله تعالى كتب(8) عليه، وإنَّما سمَّى النَّظر والمنطق ومُنى النَّفس وشهوتَها زنا لمَّا كانت دواعي إلى الزِّنا، والسَّبب قد يسمَّى باسم المسبَّب مجازًا واتِّساعًا لما بينَهما مِن التَّعلُّق، غير أنَّ زنا العين وزنا اللِّسان وتمنِّي النَّفس غير مؤاخذ به مَن اجتنب الزِّنا بفرجِه، لأنَّه كذَّب زنا جوارحِه بترك الزِّنا بفرجِه، فاستخفَّ زنا عينِه ولسانِه وقلبِه، لأنَّ ذلك مِن اللَّمَم الَّذي يُغفَر باجتناب الكبائر، وزنا الفرج مِن أكبر الكبائر، فمَن فعلَه فقد صدَّق زنا عينيه(9) ولسانِه وقلبِه، فيُؤاخَذ بإثم ذلك كلِّه.
          وفي قولِه: (النَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي) دليل على أنَّ فعل العبد ما نهاه الله عنه، مع تقدُّم تقديرِه له(10) تعالى عليه(11) وسابق علمِه بفعلِه باختيارٍ منه له وإيثارٍ(12)، وليس بمجبر عليه ولا مضطر إلى فعلِه، وعلى هذا عُلِّقَ العذاب والثَّواب(13)، فسقط قول جهم بالإجبار بنصِّ قولِه صلعم: (وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي) لأنَّ المجبر مُكرَه مُضطَر، وهو بخلاف المتمنِّي والمشتهي.
          و((اللَّمَمُ)) صغار الذُّنوب وهي مغفورة باجتناب الكبائر، وقد تقدَّم ما للعلماء في ذلك في باب الكبائر في كتاب الأدب(14).


[1] في (ص): ((قال)).
[2] زاد في (ص): ((قال)).
[3] في المطبوع: ((ويكذبه)).
[4] في (ص): ((وقال)).
[5] في المطبوع: ((نفذ)).
[6] في (ص): ((لا يؤمن منهم إلا من قد آمن)).
[7] قوله: (({إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا})) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((كتبه)).
[9] في المطبوع: ((عينه)).
[10] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[11] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((بفعله له باختيار منه أو إيثار)).
[13] في (ص): ((الثواب والعقاب)).
[14] في (ص): ((وقد تقدم في كتاب الأدب)).