شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: العمل بالخواتيم

          ░5▒ بابٌ الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (شَهِدْنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبيُّ(1) صلعم لِرَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ يَدَّعِي الإسْلامَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَأَتَى رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلعم فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَاتَلَ مِنْ أَشَدِّ القِتَالِ فَكَثُرَتْ بِهِ الجِرَاحُ فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ(2) يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ على ذَلِكَ، إِذْ وَجَدَ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنها، فَانْتَحَرَ بِه، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ إِلَى النَّبيِّ صلعم، فَقَالُوا: صَدَّقَ اللهُ حَدِيثَكَ، قَدِ انْتَحَرَ فُلانٌ وَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: قُمْ يَا بِلالُ فَأَذِّنْ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ). [خ¦6606]
          وروى: سَهْلٌ، عن النَّبيِّ صلعم قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بعَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بعَمَلَ أَهْلِ الْنَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ(3) أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإنَّما الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ). [خ¦6607]
          قال المُهَلَّب: قولُه صلعم: (إنَّما الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيْمِ) هو حكم الله تعالى في عبادِه في الخير والشَّرِّ، فيغفر الكفر وأعمالَه بكلمة الحق يقولُها العبد عند(4) الموت قبل المعاينة لملائكة العذاب، وكذلك يحبط عمل المؤمن إذا ختم له بالكفر.
          ثم كذلك هذا(5) الحكم موجود في الشِّرع كلِّه كقولِه: ((مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاة فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ)) وكذلك العصر(6) فجعلَه مدركًا لفضل الوقت بإدراك الخاتمة، وإن كان لم يدرك منه إلَّا أقلَّه، وكذلك مَن أدرك ليلة عرفة الوقوفَ(7) قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، وتمَّ له ما فاته مِن مقدِّماتِه، كما عهد الَّذي لم يعمل خيرًا قط أن يُحْرَقَ ويُذرى فكانت خاتمة سوء عملِه خشيةٌ أدركتْه لربِّه تلافاه الله بها فغفر له سوء عملِه طول عمرِه، هذا فعل مَن لا تضرُّه الذُّنوب، ولا تنفعُه العبادة، وإنَّما تنفع وتضرُّ المكتسب لها الدَّائم عليها إلى أن يموت.
          وفي قولِه: (العَمَلُ بِالخَوَاتِيْمِ) حجَّة قاطعة على أهل القدَر في قولِهم: إنَّ الإنسان يملك أمر نفسِه ويختار لها الخير والشَّرَّ، فمهما اتَّهموا اختيار الإنسان لأعمالِه الشَّهوانيَّة واللَّذيذة عندَه فلا يتَّهمونَه باختيار القتل لنفسِه إذ(8) هو أوجع الآلام، وأنَّ الَّذي طيَّب عندَه ذلك غير اختيارِه، والذي يسَّرَه له دون جبر عليه، ولا مغالب له هو قدر الله السَّابق في علمه، والحتم مِن حكمِه. /


[1] قوله: ((النَّبيُّ)) ليس في المطبوع.
[2] في (ص): ((الناس)).
[3] في (ص): ((لمن)).
[4] في (ص): ((قبل)).
[5] في (ص): ((هو)).
[6] في (ص): ((فكذلك في العصر)).
[7] زاد في المطبوع: ((بها)).
[8] في (ص): ((الذي)).