شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: جف القلم على علم الله

          ░2▒ بَابُ: جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ. وقُوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ}[الجاثية:23](1).
          وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ).
          وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:61]سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ.
          فيهِ: عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتعْرفُ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يسَّرَهُ(2) لَهُ). [خ¦6596]
          قال المُهَلَّبُ: غرض البخاريِّ في هذا الباب غرضُه المتقدِّم مِن إدحاض حجَّة القدريَّة بهذه النُّصُوص مِن كلام الله تعالى ورسولِه صلعم، فأخبر أنَّه قد فرغ مِن الحُكْمِ على كلِّ نفسٍ، وكتب القلم ما يصير إليه العبد مِن خيرٍ أو شرٍّ في أُمِّ الكتاب، وجفَّ مدادُه(3) على المقدور مِن علم الله، فأضلَّه الله على علمٍ به ومعرفةٍ بما كان يصير إليه أمرُه لو أهملَه ألَّا يسمعَه قد بيَّن ذلك في كتابِه حيث يقول: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النَّجم:32].
          فعرَّفنا أنَّه كان بنا عالمًا حين خلق آدَمَ ◙ مِن طينة الأرض المختلفة وأحاط علمًا بما يقع مِن تلك الطِّينة لكلِّ شخصٍ مِن أشخاص ولدِه إلى يوم القيامة، المتناسلين مِن صلبٍ إلى صلبٍ في أعدادٍ لا يُحيط بها(4) إلَّا مُحصيهم(5)، وعلم ما قسمَه مِن تلك الطِّينة مِن طيِّبٍ أو خبيثٍ، وعلم ما يعمل كلُّ واحدٍ مِن الطَّاعة والمعصية ليشاهد أعمالَه بنفسِه، وكفى بنفسِه شهيدًا عليه، وليشهد(6) له عليه ملائكتُه وما عاينَه مِن خلقِه، فتنقطع حجَّتُه، وتحقَّ عقوبتُه ولذلك قال لأبي هريرةَ حين أراد أن يختصي خشية الزِّنا على نفِسه: (قَدْ جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ) فاختصَّ على ذلك أبو ذرٍّ، فعرَّفه أنَّه لا يعدو ما جرى به القلم عليه مِن خيرٍ أو شرٍّ فإنَّه لابُدَّ عاملُه ومكتسبُه، فنهاه عن الاختصاء بهذا القول الَّذي ظاهرُه التَّخيير، ومعنى النَّهي والتَّبكيت لمَن أراد الهُرُوب عن القدر والتَّعريف له أَنَّه إِنْ فعل فإنَّه أيضًا مِن القدر المقدور عليه فيما جفَّ به القلم عليه.
          وقد سئل الحَسَنُ البَصْرِيُّ عن القدر فقال: إنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ الخلقَ للابتلاءِ، لم يطيعوه بإكراهٍ منه، ولم يعصوه بغلبةٍ، ولم يهملهم مِن المملكة، بل(7) كان المالك لما مَلَّكَهُمْ فيه، والقادر لما قدَّره عليهم، فإنَّ تأثَّم العباد بطاعة الله لم يكن الله صادًا عنها، ولا مبطئًا، بل يزيدُهم هدًى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم، وإن تأثَّم العباد بمعصية الله تعالى كان القادر على صرفِهم، إن شاء فعل وإن شاء خلَّى بينهم وبين المعصية فيكسبونها، فمِن بعد الإعذار والإنذار لله الحجَّة البالغة، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:23]{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين}[النَّحل:9]
          وقال المُهَلَّبُ: في حديث عِمْرَانَ حجَّةٌ لأهل السُّنَّة على المجبِّرة مِن أهل القدر وذلك قولُه: (اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) ولم يقل: فكلٌّ مُجْبَرٌ على ما خُلِقَ له، وإنَّما أراد لما خُلِقَ له(8) مِن عملِه للخير أو للشَّرِّ.
          فإِن قيل: إنَّما أراد بقولِه: (لمِاَ خُلِقَ لَهُ) الإنسان مِن جنَّةٍ أو نارٍ، فقد أخبر أنَّه مُيَسَّرٌ لأعمالها(9) ومختارٌ لا مجبرٌ(10)، لأنَّ الخير لا يكون باختيار وإنَّما هو بإكراهٍ.


[1] قوله: ((قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ})) ليس في (ت) و(ص).
[2] قوله: ((يسَّره)) ليس في (ت) وفي (ص): ((ييسره)).
[3] في (ص): ((بمداده)).
[4] زاد في (ص): ((علماً)).
[5] في (ص): ((محصيها)).
[6] في (ص): ((وتشهد)).
[7] في (ص): ((فإنَّه)).
[8] قوله: ((ولم يقل: فكلٌّ...لما خُلِقَ له)) ليس في (ت) و(ص).
[9] صورتها في (ص): ((أنه مسؤول عمالا)).
[10] في (ت) و(ص): ((أو مختارًا لا مجبرًا)).