شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما ينهى عن إضاعة المال

          ░19▒ بَابُ مَا يُنْهَى عَنْ(1) إِضَاعَةِ المَالِ
          وَقَوْلِهِ(2) تَعَالَى: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ}[البقرة:205]و{لَا يُصْلِحُ(3) عَمَلَ المُفْسِدِينَ}[يونس:81]وقَالَ: {أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}[هود:87]وقَالَ: {ولَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ}[النِّساء:5]والحَجْرِ في ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى عَنَهُ مِنَ الخِدَاعِ.
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ(4) صلعم: إِنِّي أُخْدَعُ في البُيُوعِ، فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلَابَةَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ). [خ¦2407]
          وفيهِ المُغِيرَةُ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ(5) صلعم: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ). [خ¦2408]
          اختلفَ العلماءُ في إضاعةِ المالِ فقالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ: إضاعةُ المالِ أنَ يرزقَك اللهُ رزقًا فتنفقَه فيما حرَّم اللهُ عليك، وكذلك قَالَ مَالِكٌ.
          قال المُهَلَّبُ: وقيل: إضاعةُ المالِ السَّرَفُ في إنفاقِه وإن كان فيما يحلُّ، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم ردَّ تدبيرَ المعدمِ(6) لأنَّه أسرفَ على مالِه فيما يحلُّ له ويؤجرُ فيه(7)، لكنَّه أضاعَ نفسَه، وأجرُهُ في نفسِه أوكدُ عليه مِنْ أجرِهِ في غيرِه.
          واختلفَ العلماءُ في وجوبِ الحُجَّةِ على البالغِ المضيعِ لمالِه، فقالَ جمهورُ العلماءِ(8): يجبُ الحجرُ على كلِّ مضيعٍ لمالِه صغيرًا كان أو كبيرًا. رُوِيَ هذا عن عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ الزُّبَيْرِ وعائشةَ، وهو قولُ مالكٍ والأوزاعيِّ و أبي يوسفَ ومُحَمَّدٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ وأبي ثَوْرٍ.
          وقالت طائفةٌ: لا حَجْرَ على الحرِّ البالغِ، هذا قولُ النَّخَعِيِّ وابنِ سِيرِينَ، وبه قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فإن حَجَرَ عليه القاضي ثمَّ أقرَّ بدينٍ أو تَصَرَّفَ في مالِهِ جازَ ذلك كلُّه. واحتجَّ بحديثِ الَّذي كان(9) يُخدَعُ في البيوعِ فقالَ له ◙: / (إذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ لاَ خِلَابَةَ).
          قالَ(10): ففي هذا الحديثِ وقوفُ النَّبِيِّ صلعم على أنَّه كانَ يُخدَعُ(11) في البيعِ فلم يمنعه مِنَ التَّصَرُّفِ ولا حَجَرَ عليه.
          وحُجَّةُ الجماعةِ قولُهُ تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا}[النِّساء:5]فنهى ╡ عن دفعِ الأموالِ إلى السُّفَهَاءِ, وقال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النِّساء:6]فجعلَ شرطَ دفعِ أموالِهِم إليهم وجود(12) الرُّشِدِ، وهذه الآية محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، ومَنْ كان مُبَذِّرًا لمالِه فهو غيرُ رشيدٍ.
          وقالَ ابنُ المُنْذِرِ: في قوله(13) تعالى في قصَّةِ شُعَيْبٍ ◙: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} الآية(14)[هود:87]، وقال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشُّعراء:128]فخبَّر ╡ أنَّ(15) أنبيائَه صلواتُ اللهِ عليهم منعوا(16) قومَهم مِنْ إضاعةِ الأموالِ والعبثِ، والأنبياءُ ‰ لا تأمرُ إلَّا بأمرِ الله ╡.
          واحتجُّوا بقولِهِ ◙: ((إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ إِضَاعَةَ المَالِ)) وما كَرِهَ اللهُ سبحانَه لنا فمُحَرَّمٌ(17) علينا فعلُهُ. وقولِهِ تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ}(18)[القصص:77]، و{لَا يُحِبُّ الفَسَادَ}[البقرة:205]فالمُبَذِّرُ(19) لمالِهِ داخلٌ في النَّهيِّ ممنوعٌ منه.
          واحتجَّ الطَّحَاوِيُّ على أبي حنيفةَ فقالَ: لمَّا قال ◙(20): (إذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلَابَةَ) أي لا شيءَ عليَّ مِنْ خِلَابَتِك إِيَّايَ، جَعَلَ بيوعَه معتبرةً، فإن كانَ فيها خِلَابَةٌ لم تَجُزْ.
          وليس في هذا الحديثِ دفعُ(21) الحَجْرِ، إنَّما فيه اعتبارُ عقودِ المحجورِ عليه، قال غيرُهُ: ويُحْتَمَلُ أن يكونَ الرَّجُلَ يُغبَنُ بما لا ينفكُّ التُّجَارُ منه(22)، فجعلَ له النَّبيُّ صلعم الخيارَ ثلاثًا ليستدركَ الغبنَ في مدَّةِ الخيارِ، ولو أوجبتِ الضَّرورةُ الحَجْرَ عليه لفعلَ(23).
          قَالَ المُهَلَّبُ: ألا ترى أنَّه قد شَعَرَ لما يُمْكَرُ به(24) فسألَ عنه النَّبيَّ صلعم وليس مَنْ شكَا مثلَ هذا(25) مُضَيِّعٌ لمالِهِ، وإنِّما هو حريصٌ على ضبطِهِ والنَّظرِ فيه فحضَّه ◙ أن جعلَ له إذا بايعَ أنْ يقولَ: لَا خِلَابَةَ، أي لا تخدعوني فإنَّ خَدِيعَتِي لا تَحِلُّ.
          قال الطَّحَاوِيُّ: ولم أجدْ عن أحدٍ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ أنَّه قَالَ(26): لا حَجْرَ، كما قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا عن النَّخَعِيِّ وابن سِيرِينَ.
          وقوله: (وَوَأْدَ البَنَاتِ) مِنْ قولِهِ ╡: {وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:8-9]وقوله: (ومَنْعَ(27) وَهَات) يعني أن يمنعَ النَّاسَ خيرَه ورِفْدَه، ويأخذُ منهم رِفْدَهم.
          وقَالَ مَالِكٌ في قوله: (قِيلَ وقَالَ): هو(28) الإكثارُ مِنَ(29) الكلامِ والإرجافِ، نحو قولِ النَّاسِ: أعطى فلانٌ كذا ومنعَ كذا، والخوضُ فيما لا يعني(30). وقال أبو عُبَيْدٍ في قولِه: (قِيلَ وَقَالَ): كأنَّه قالَ مِنْ قولِ وقيلَ(31)، يُقَالُ: قلت قولًا وقِيلًا وقَالًا، وقرأ ابنُ مَسْعُودٍ: ((ذَلِكَ عِيْسَى ابنُ مَرْيَمَ قَالَ(32) الحَقَّ)) يعني قولَ الحقِّ.
          وأمَّا (كَثْرَةُ السُّؤَال) فقَالَ مَالِكٌ: لا أدري أهو ما أنهاكُم عنه مِنْ كثرةِ المسائلِ فقد كَرِهَ رَسُولُ اللهِ المسائلَ(33) وعابَها أو هو مسألةُ النَّاسِ أموالَهم.


[1] في (ز): ((من)).
[2] في (ز): ((وقول الله)).
[3] صورتها في (ز): (({لَا يُحِبُّ})).
[4] في (ز): ((للنَّبيِّ)).
[5] في (ز): ((النَّبيُّ)).
[6] في (ز): ((المغرم)).
[7] في (ز): ((عليه)).
[8] في (ز): ((فقال جمهور علماء الأمصار)).
[9] قوله: ((كان)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[11] صورتها في (ز): ((يعير)).
[12] في (ز): ((أموالهم وجوب)).
[13] في المطبوع: ((قوله))، وفي (ز): ((وقوله)).
[14] زاد في (ز): (({أَنْ نَتْرُكَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}))، وليس فيها: ((الآية)).
[15] في (ز): ((عن)).
[16] قوله: ((منعوا)) ليس في (ز).
[17] في (ز): ((فحرام)).
[18] في (ز): (({إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِيْنَ})).
[19] في (ز): ((فالمفسد)).
[20] في المطبوع: ((لمَّا قَالَ له ◙))، وفي (ز): ((قَالَ له النَّبيُّ صلعم)).
[21] في (ز): ((رفع)).
[22] في (ز): ((لا تنفكُّ التِّجارة عنه)).
[23] في المطبوع: ((لفعله)).
[24] زاد في (ز): ((فيه)).
[25] زاد في (ز): ((هو)).
[26] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[27] في (ز): ((منع)).
[28] في المطبوع: ((وهو)).
[29] في (ز): ((في)).
[30] في (ز): ((يعني)).
[31] في (ز): ((كأنَّه قال عن قيل وقول)).
[32] قوله: ((قول)) ليس في (ص).
[33] قوله: ((فقد كره رسول الله المسائل)) ليس في (ز).